كيف تشكل النظام العالمي ؟ | هل يمكن لدولة واحدة أن تتحكم في مصير العالم؟

لعل أهم شيء في سيرورت الأحداث في تاريخ البشرية كان رهينا لسنوات دون غيرها، حيث تعتبر أيام وشهور وسنوات لها تأثير كبير على حياة البشرية أكثر من غيرها، ولعل الحرب العالمية الأولى كان لها تأثير عميق في تطور المنظومة العالمية، حيث أن العالم قبل الحرب كان شيء والعالم بعد الحرب أصبح شيئا أخر، حيث ساهمت أحداث ونتائج هذه الحرب في صنع عالم جديد ونظام عالمي تحكمه دول لم يكن لها تأثير كبير قبل هذه الحرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي قادتها الظروف لتقود النظام العالمي الجديد، رغم الصراع الذي شهدته على هذا العرش من قبل الاتحاد السوفياتي، إلا أنها استطعت تمسك قبضتها على الصولجان لتعلن نفسها سيدة العالم وشريطه الذي ينهي أي نظام يخاف تطلعاته.
العالم قبل الحرب العالمية الأولى
كان العالم قبل الحرب العالمية الأولى تقوده عدة أقطاب تمثل النظام العالمي الذي كان سائدا حينها، وكل قطب من هذه الأقطاب له تطلعاته وأيديولوجيته ومصالحه، وهذا جعل العالم في ذلك الزمان يعيش حروبا مزمنة تكاد لا تنتهي، بريطانيا على سبيل المثال كانت تحتل ربع أراضي الكرة الأرضية الأمر الذي جعلها تتربع على عرش الاقتصاد العالمي، لكنها كانت تواجه غريمتها التاريخية فرنسا، التي بدورها احتلت أراض شاسعة من أفريقيا وآسيا وبصورة أقل القارة الأمريكية، كما كانت قوى أخرى كألمانيا التي أصبحت في أواخر القرن 19م تدخل في صراع من أجل أخذ حصة من كعكة العالم، ولعل هذا جعلها تدخل في حرب اقتصادية مع بريطانيا، وهذه الأخيرة كانت تعد القطب المالي العالمي، لكن ألمانيا كانت قطبا صناعيا يدخل بقوة في التجارة العالمية، الأمر الذي ضايق بريطانيا .
وفي المقابل كانت الدولة العثمانية في القرن 19م الرجل المريض الذي تتضاءل قواه بعدما كان يقود العالم في القرن 17م، كما كانت الولايات المتحدة الأمريكية قوة صناعية كبرى، ولا ننسى اليابان التي قادت نهضتها لتصبح قوة اقليمية يضرب لها ألف حساب، وكذلك روسيا التي كانت لها جيوش جرارة.
وإن ذل عدد الدول الكثيرة التي كانت تقود العالم فهو يذل على تعدد الأقطاب والمصالح، وكذلك توازن القوة الذي جعل العالم في القرن 19 وبداية 20 يشهد استقرارا نسبيا من الناحية السياسية، لكن وبعد اشتعال الحرب العالمية الأولى سيتغير كل شيء.
الحرب العالمية الأولى وتشكل النظام العالمي الجديد
فبعد اشتعال الحرب العالمية الأولى التي كان لها عدة أسباب ونتائج، اثر عدة ارهاصات كانت تنذر بحدوث هذه الحرب قبل حدوثها، ولعل أهم ما يهمنا في تشكل النظام العالمي الجديد، هو دخول القوى الكبرى في هذه الحرب، وخاصة القوى الأوربية التي كانت الميدان الذي تقاد في الحرب، مما جعل قوتها الاقتصادية تنهار على حساب صعود الاقتصاد الأمريكي، الذي كان يستفيد من هذه الحرب في المجال الاقتصادي، وأكيد فالولايات المتحدة الأمريكية اتخذت موقف الحياد لفترة طويلة بعد اشتعال هذه الحرب، لعدة خصوصيات داخلية بشكل رئيسي، فأكيد الشعب الأمريكي هو شعب متنوع الأعراق، مما جعل التورط في هذه الحرب هو ضرب للوحدة الوطنية الأمريكية.
فقد جعلت صادرات وقروض أمريكا لأوروبا العالم يشهد تغيرات هيكلية في ميزان القوة، وبالقابل فخسارة ألمانيا في هذه الحرب جعل اقتصادها ينهار بشكل كامل، وأما روسيا فالحرب جعلتها تعيش في مستنقع الثورة الحرب الأهلية، وأما الدولة العثمانية فقد أصبحت طي النسيان هي والامبراطورية النمساوية المجرية، كل هذا فتح الأبواب للهيمنة الأمريكية، وهذه الأخيرة كانت مترددة في قيادة العالم حيث رفضت الانضمام لعصبة الأمم بعد جلسة في الكونغريس، ولكن تظهر تجليات قوتها في أزمة 1929 التي انتقلت كنار في الهشيم من أمريكا نحو أوربا المتهالكة، مما عمق جروح الأخيرة ويفتح الأبواب لسقوط بريطانيا وصعود أمريكا.
النظام العالمي
ولعل أبرز مظاهر هذا السقوط الأوروبي على المشهد العالمي، كان أولا اقتصاديا عبر انهيار الصناعات المحلية والاعتماد على الاستيراد، وكذلك أزمة البنوك والعملات المحلية، حيث الدول الأوربية بعد الحرب وجدت نفسها في مأزق الديون الذي انتقل في بريطانيا من 30% قبل الحرب إلى 200% بعد الحرب من الناتج الداخلي الخام، لكن الخطأ الكبير الذي جعل أوربا تعمق أزمتها أنها ظلت تربط عملاتها مع الذهب ولكن بنفس الصورة التي كانت تقوم بها قبل الحرب، رغم أن مخزوناتها من الذهب تضاءل بشكل كبير، الأمر الذي سيجعل القدرة الشرائية تنهار بشكل كارثي.
وأما ألمانيا فالعقوبات التي فرضت عليها جعلت اقتصادها ينهار، حيث أصبح يطبع المارك الألماني بدون غطاء من الذهب، وهذا سيؤدي مباشرة إلى انهيار في قيمة العملة حيث كانت دولا واحد يساوي 4.5 مارك ألماني قبل الحرب ليصبح دولار واحد يساوي مليارات الماركات بعد سنوات من الحرب، وهذا سيجعل ألمانيا غير قادرة على سداد ما فرض عليها في معاهدة فيرساي، الأمر الذي سيدفع فرنسا إلى احتلال المناطق الصناعية الألمانية المجاورة لحدودها، وبفعل كل هذه الأزمات سيصعد التيار الفاشي في هذه الدول المنهارة، مما سينذر باشتعال حرب عالمية جديدة ستقود أمريكا إلى قمة الهرم.
النظام العالمي
وفيما يخص الولايات المتحدة الأمريكية ورغم تأثرها بالكساد العظيم، إلا أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الجديد روزفيلت استطاع امتصاص هذه الأزمة بعدما اتخذ عدة اجراءات، من بينها اعتماد على نظرية كينزي التي تقر بضرورة تدخل الدولة في أوقات الأزمات لايقاف النزيف، ورغم أن نظرية كينزي جعلت بريطانيا محصنة من السقوط نحو الهاوية بسرعة، إلا أن نظريته هذه جعلت من أمريكا تقود العالم، حيث قام الرئيس روزفيلت بمنع تصدير الذهب، كما جرم تخزين السبائك الذهبية، وفي نفس الوقت قام بتجميع الذهب وخفض عملة الدولار بنحو 40 في المئة لكي يوقف تهاوي أسعار السلع بصورة كبير، كما فتح الباب أمام مشاريع جديدة لتخفيض البطالة وزاد من الانفاق الحكومي، لتنتعش الأسواق بعد ذلك.
الحرب العالمية الثانية وصعود أمريكا
كانت أمريكا متحسسة من دخول حرب جديد، حيث طغى تيار سياسي رافض لدخول البلاد في أي حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، هذا جعل الكونغريس يقر قانون الحياد سنة 1935، لكن سرعان ما تم الالتفاف على هذا القرار سنة 1937 بعد ما تبين أن ألمانيا تسعى لإشعال حرب جديدة، فتم اقرار قانون يمكن للدول الأوربية من شراء السلاح الأمريكي شريطة أن يتم تقديم أمواله على الفور، وبعد اشتعال الحرب العالمية الثانية كانت أمريكا تترقب من بعيد، إلى أن بدأت بريطانيا تتقهقر أمام الضربات الألمانية، لتبدأ أمريكا بدعم حليفتها بالمؤن والسلاح بعد ما تم اقرار قانون الاعارة والاستئجار سنة 1941 في شهر مارس، كي تستطيع بريطانيا مقاومة الألمان، لكون روزفلت رئيس أمريكا كان يرى أن بقاء بريطانيا في ساحة الحرب سيجنب أمريكا الدخول في حرب مباشرة مع ألمانيا.
وقد عقدت أمريكا وبريطانيا مؤتمر الأطلنتي سنة 1941 ليعطوا نظرة حول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ظهرت هنا أطماع أمريكا في أن تصبح هي زعيمة النظام العالمي الجديد، من خلال منح الدول المستعمرة الاستقلال وضمان حرية التجارة وعدم فرض عقوبات قاسية على الدول الخاسرة في الحرب كي لا تحاول الانتقام من جديد، بالإضافة إلى ذلك ظهرت لروزفلت النظرة البدائية حول الأمم المتحدة، بتكون مجلس شرطة العالم مكون من 4 دول منتصرة، والتخلي على عصبة الأمم التي كان يراها غير مجدية بإقحام دول ضعيفة على طاولة المفاوضات مع دول عظمى قوية، وقد كان يرى أنه يجب منع الأسلحة على الدول الضعيفة، لتكون الدول القوية لها نفوذ على محيطها، بحيث تسيطر أمريكا على القارتين الأمريكيتين، الاتحاد السوفياتي على أوروبا الشرقية وبريطانيا على أوربا الغربية والصين على آسيا.
النظام العالمي
ورغم أن الصين كانت تعاني من مشاكل داخلية متمثلة في الحرب الأهلية إلا أن أمريكا ظلت متمسكة في ادخالها في هذا المجلس، لكي تحجم من قوة بريطانيا في آسيا واليابان التي كانت تتضخم، وقد رفضت بريطانيا والاتحاد السوفياتي دخول الصين لكن ضغط الولايات المتحدة في زمن الحرب ، جعل هذه الدول تمتثل لارادتها، وقد تم اقرار الأمم المتحدة سنة 1942 من قبل 26 دولة، كان 4 دول هي المتحكمة في الوضع أي شرطي العالم لها حق الفيتو و 22 دولة لها عضوية.
فبعد أيام قليلة من مؤتمر الأطلنتي هاجمت اليابان الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي سيجعل هذه الأخيرة تدخل في العالمية الثانية بشكل رسمي، هذا فتح الباب للولايات المتحدة لتدخل في حرب مباشرة مع اليابان وحلفائها ( ألمانيا ، إيطاليا )، وبعد مؤتمر طهران سنة 1943 تم اقرار ضرورة اسقاط ألمانيا النازية أولا بمساعدة أمريكية، وهنا يظهر أن أمريكا ضحت بنفسها من أجل حلفاءها، وبعد انزال نورماندي كان يظهر جليا أن الحرب حسمت للحلفاء، وهنا بدأت تظهر توجسات لبريطانيا أن امبراطوريتها ستكون طي النسيان.
النظام العالمي
لذلك حاولت اقتراح مجلس أوربي خاص بالمشاكل والتوترات الأوربية، ذلك في ظل تصاعد قوة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لكن اقتراحها هذا قوبل بالرفض، لذلك استماتت بريطانيا لضم فرنسا إلى مجلس الأمن بعد ما كان يضم 4 دول فقط، وقد تم ادخال فرنسا بعد دعم بريطاني سوفياتي ليصبح مجلس الأمن مكون من 5 دول، والدعم السوفياتي يعود لكون فرنسا كانت مستقلة نوعا ما من أمريكا، خلافا لبريطانيا التي كانت خاضعة بشكل كلي للنفوذ الأمريكي، وسبب رفض أمريكا لإدخال فرنسا، كون الأخيرة أصبحت امبراطورية ضعيفة اثر الخسارة الكارثية في الحرب العالمية الثانية أمام الألمان.
وقد اقترحت أمريكا عدة دول لدخول مجلس الأمن كان من بينها البرازيل التي كانت حليفة أمريكا في الحرب، حيث قدمت البرازيل دعما سخيا للولايات المتحدة، ولكن الاتحاد السوفياتي وبريطانيا كانوا رافضين للأمر ليستتبب لهم الأمر بعد رفض الرأي العام البرازيلي لهذه الخطوة، وهذا ما جعل أمريكا تقترح الهند بعد ما نجح الشيوعيون بقيادة ماو في السيطرة على الحكم في الصين، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تشعر بتخوف تحالف صيني مع الاتحاد سوفياتي، لكن هذه الأخيرة لم تهتم بالأمر كثيرا مما جعلها تضيع هذه الفرصة.
هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي
قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا يضعون نماذجا للدفع، اثر تراكم الديون على الدول المشاركة في الحرب، حيث اقترحت بريطانيا نموذج اتحاد المقاصة الذي عملته بانكور، فهذا الاتحاد يحدد صافي الميزان التجاري، مما يجعل الدول التي تمتلك فائضا ميزانها التجاري ستمتلك البانكور، عكس الدول التي تعاني من عجز في الميزان التجارة سيكون عندها نقص في البانكور، وهذا سيجعل الدول تدفع ديونها بالبانكور.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية كانت رافضة لهذا الاقتراح وعوضا عنه جعلت الدولار هو العملة العالمية، اثر مصادقة 44 دولة على اتفاقية برتيناورت في يوليوز 1944 بعد شهر من انزال نورماندي، وهذا أكيد متوقع لكون الولايات المتحدة كانت تمتلك حوالي 75 في المئة من الذهب الموجود في العالم.
مشروع مرشال والهيمنة الأمريكية على النظام العالمي
بعد الحرب العالمية الثانية كانت الدول المشاركة في الحرب مدمرة دمارا شاملا، واقتصادها في الحضيض، والشعوب الأوربية تعاني من نقص في المواد الأولية والغذاء، كل هذا كان أرضية خصبة لانتشار الأفكار الشيوعية، هذا أنذر الولايات المتحدة أن هيمنتها قد تكون طي النسيان ما إذا استطاع السوفيات ضم الدول الأوربية، ولمنع ذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم مساعدات مالية واقتصادية وعسكرية لحلفائها الغربيين في أوربا وعلى رأسهم فرنسا وبريطانيا وذلك بما يسمى مشروع مرشال 1951 ( 13 ميار دولار أي 200 مليار دولار في وقتنا الحالي ) ومشروع الأمن المبادل ( من 1951 إلى 1961 اعادة تسليح الدول الأوربية ضخت خلالها أمريكا حوالي 7 مليار دولار كل سنة ).
وقد اقترحت أمريكا ضم الاتحاد سوفياتي ودول شرق أوربا إلى هذا المشروع، لكن السوفيات رفضوا المقترح ومنعوا دول شرق أوربا من السير خلف الدول الأوربية الأخرى، مقترحين نظامهم الخاص.
الضعف الأمريكي
كل هذه المساعدات ساعدت دول العالم للشفاء من أزمتها، لكن في المقابل كانت حصة الولايات المتحدة تتضاءل من الاقتصاد العالمي، كما أن الحرب الباردة استنزفت خزائن أمريكا مما جعلها تطبع الدولار دون غطاء من الذهب، وبعد ما بدأت الدول تشعر بالأمر انتابها الخوف لذلك كانت تحول مخزونات احتياطاتها من الدولار إلى الذهب مما جعل الخزينة الأمريكية تعاني من ضغط رهيب على مخزونها من الذهب، خاصة ما بين سنتي 1965 و 1970 وقد رافق هذه الفترة انغماس الولايات المتحدة في حرب طاحنة في الفيتنام، وإلى أن وصلت الأمور إلى الحضيض قام الرئيس نيكسون بالاعتراف بالأمر لتنفجر الفضيحة في العالم بما يسمى ( صدمة نيكسون )، ولمنع خروج الأوضاع قام الرئيس بمنع تغير أسعار السلع والأجور لمدة 3 أشهر.
ولحسن حظ أمريكا أن حرب 6 أكتوبر سنة 1971 اشتعلت، مما جعل السعودية تقوم بقطع النفط على أمريكا وحلفائها، مما جعل أسعار النفط تتضاعف ل 7 أضعاف، وبما أن الدول الصناعية الكبرى كانت تمتلك فوائض نقدية من الدولار، استنزفت هذه الفوائض في شراء النفط، وبعدها تم ربط النفط بالدولار مما أعطى للدولار مشروعية.
الولايات المتحدة الأمريكية قائدة النظام العالمي الجديد
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في التسعينات فتح المجال للولايات المتحدة الأمريكية لتقود النظام العالمي ولصتبح شرطيه، حيث حقق الناتج الداخلي الخام الأمريكي فائضا يقدر بالمليارات من الدولارات وكان يتوقع أن يصل إلى تريليون دولار، وأن يستمر الوضع هكذا لحوالي 10 سنوات، لكن الأمر لم يسر كما كان متوقعا فأحداث برج التجارة العالمية، واعلان أمريكا الحرب على أفغنستان والعراق، جعل الخزينة الأمريكية تستهلك، وبدأت بذلك قوة أمريكا تتناقص أمام صعود صيني وروسي.
وهاته الدول لولا الضوء الأخضر الأمريكي لها لما وصلت لما وصلت إليه، حيث أن الصين سيتم الاعتراف بها كدولة سنة 1971، وبعدها ستدخل في نادي التجارة العالمية وهناك ستبني قوتها الصناعية.