كتاب التحليل النفسي للنار للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار
غاستون باشلار كان فيلسوفا فرنسيا عاش في القرن العشرين وفي أواخر القرن التاسع عشر، وكان له مساهمات كثيرة في علم الجمال وفي الابستمولوجية، وكان أيضا فيلسوفا للعلم، وقد تأثر غاستون باشلار بالتحليل النفسي الفرويدي، لذلك اعتبر أن للنار دلالات كثيرة أهمها الدلالات الجنسية، فهو أخذ على نفسه أن يكتشف هذه الدلالات ويتفحص بها لكي يكشف النقاب عن معناها في أحلام اليقظة وفي اللاوعي، يبدأ باشلار بالقول أن النار تحمل الكثير من المتناقضات، فهي الوحيدة بين جميع الظاهرات التي يمكنها أن تتقبل كلتا القيمتين متضادتين الخير والشر.
هي تتألق في الفردوس وتستقر في الجحيم، هي عذوبة وعذاب، هي مسرة للطفل الذي يجلس قرب الموقد، ولكنها تعاقب على كل عصيان إذا ما أراد أن يدنو منها، لذلك كانت النار تجمع من أهم الصفات المتناقضة، ومن هنا يجب القيام ببحث منهجي وعلمي للبحث حول معنى النار في التحليل النفسي، فيبدأ بالحديث حول هالات الخوف التي عادة ما تحيط بالنار من بداية حياتنا، فإن أهلنا في بداية حياتنا يبدأون بالصراخ علينا إذا ما اقتربنا من النار، فالنار هاجس اجتماعي أقوى تأثيرا من النار كحاجز ارتكاز، أي عندما يضع الطفل يده على النار ويشعر بلهيبها ويصاحبها فورا بالصراخ، إن الخوف من النار عادة ما يكون بسبب العامل الاجتماعي، أي صراخ الأب على ابنه فتنشأ عقدة خوف من النار، وتنشأ أيضا عقدة بروميثيوس وهي رغبتنا في اكتشاف المحرمات والتمرد عليها، أو هو الفضول الذي يجعلنا نريد أن نعرف ونجرب أكثر من الأخرين.
لذلك كانت النار دوما محاطة بهذه الهالات من الخوف وحب الاستكشاف
عقدة كليس
ثم يتحدث باشلار عن عقدة كليس حيث أن كليس هو فيلسوف يوناني رمى بنفسه في النار وهذا غاية في الغرابة وربما في الجنون، إن عقدة كليس هي العقدة التي تخص أولئك الذين يعتبرون النار أعظم مطهر، فيرون أن اجتماعهم في النار يطهر أرواحهم، وأن إحراقها لأنفسهم سيغير نظام العالم الذين يريدون أن يكونوا فيه، وأنه سوف يضيء سبل الأخرين إذا ما رموا أنفسهم في النار، فيقول باشلار أن المرء يشعر أمام النار بهذه العقدة، يشعر بعقدة كليس، يشعر بأن النار أكبر مطهر، فهو يشعر بالراحة أمامها؛ ويذكر عدة كتابات أدبية تحدثت عن النار والرهبة التي نشعر بها أمامها
الكتاب بالمناسبة مليء بالشواهد والمقاطع الأدبية المقتطفات من بعض الروايات والأشعار، وعند البدء بالحديث عن النار وإحيائها يضفي باشلار عليها الكثير من التفسير الجنسي، متبعا بذلك خطى فرويد الذي عزى الأحلام والميول كلها إلى الرغبة الجنسية، فيقول أننا عندما نريد الحديث عن النار يجب أن نضع أنفسنا محل الإنسان البدائي، واحترامنا للنار هو احترام مكتسب، وارتباطنا العاطفي بها بدأ منذ الإنسان الأول الذي أسقط عليها تعابيره وأفكاره، فيقول أن نشأتها الأولى مرة عبر احتكاك خشبة تين ببعض، ثم ولد الابن وهو النار الملتهبة هذه كلها بشكل من الأشكال تذكر بإيحاءات جنسية.
عادات الشعوب مع النار
إن عادات الشعوب وخرافاتها ربطت النار بالجنس، ففي إيرلندا كان اعتقاد قديم يقول أن المرأة الصغيرة التي تقفز فوق النار ثلاثا إلى الأمام سوف تتزوج وتنجب أطفال كثيرة، وفي عيد النار في شمال الهند يقام فيه الرقص، ويخلص إلى أن البدائيين رأو إيحاءات جنسية في النار، ويذكر أن العرب أيضا ربطوا الجنس بالنار من قبل، فقد أطلق على أبو لهب هذا الاسم لشدة جماله، لاحظوا هنا الربط بين الجمال والإثارة في اللهب والنار، طبعا هذا المثل عن العرب أنا من أوردته، فقد ظلت النار مرتبطة في الثقافات القديمة مع وجود امتدادات لذلك في الفكر المعاصر بكل المجازات الجنسية، فهي ترمز لمعاني الخصوبة والولادة والفحولة والإنتاج والقوة.
ثم يمضي باشلار ليتحدث عن النار في العلم والشعر فيقول أن الرواة والأطباء والفيزيائيين والشعراء يمضون بالبحث مع أفكار أولية ثم يعودون بها، فهم يغلبون أفكارهم البدائية وتأثرهم الشاعرية الساذجة بطابع علمي، ويثبت ذلك بجملة من الشواهد والاقتباسات لعلماء وشعراء، ويقول أنه اعتقد الكيميائيون لمدة طويلة أن للنار قوة باطنية وجوهرية تتناقض تماما مع كل ما يمكن أن يعكسه مظهرها، وهذا التصور الميتافيزيقي وما ترتب عليه من استدلالات أخرى عرقل كثيرا مسألة إيجاد علم خاص بالنار.
علاقة النار بالكحول
ينتقل باشلار إلى فكرة أخرى وهي علاقة النار بالكحول، فشكل اكتشاف الكحول في تناقضاته الفينومينولوجيا الكثيرة، المؤسسة لجسده أرضية أخرى لكي تظهر بعض العقد المعرفية والتي عملت دائما على تعتيم الرؤية الحقيقية للنار، فحدد باشلار بعض خصائص الكحول بأنه ماء النار وهو ماء يحترق ويشتعل لأقل شرارة يشبه في قوته التحطيم، فكمية الماء القوي يضع الكحول حرارته في جوف البطن الإنساني، يظهر الكحول قوته من خلال كمية صغيرة، فلاحظ أنه يربط ما بين الكحول وما بين النار.
فهو يقول أيضا أن الكحول في الأحلام من الممكن بشكل من الأشكال أن تؤدي نفس المعنى للنار أو حتى بالعكس، يعني فلا ينحصر تفسير النار هنا بل يتمدد ليشمل أمرين متعاكسين وهي الطهارة والنجاسة، وكلا الصفتين يعززان للنار، فالنار كانت علامة للشر، والنار هي مأوى المذنبين في الأفكار الدينية، ولا نغفل أن الشيطان نفسه من نار في الميثولوجيا القديمة.
كتاب التحليل النفسي للنار
ولا يستغرب باشلار هذه النظرة عن النار، فالنار كانت تمثل كما روى لنا الصراع الجنسي للإنسان، بالمقابل استطاعت النار أن تمثل في الوقت نفسه الطهارة، ويقترح باشلار أسباب لاعتبار النار كذلك، فيقول أن لعل إزالة الرائحة كانت من أهم أسباب تقويم النار بهذا المعنى، وهي على أية حال أحد البراهين المباشرة على عملية التطهير في الرائحة صفة بدائية قاهرة تفرض نفسها بنفسها بواسطة الحضور الأشد خفاء والأكثر إلحاحا، وتقتحم علينا حياتنا الداخلية، إن النار تطهر كل شيء لأنها تقضي على أشد الروائح قرفا، ولا يغفل باشلار التفسير القائل أن النار بعدما اكتشفها الإنسان وأصبح يطهو الطعام باستخدامها استطاعت أن تلين طعامه وتسهل الهضم فباتوا أقدر على تطهير المعدة، ومن هنا ينهي باشلار تحليله لظاهرة النار في العقل الإنساني.
ف باشلار عادة لا ينتهي بخلاصة أو نتائج في بحثه، بل هو نفسه قال في بداية الكتاب أن هذا الكتاب لن يزيد على معارفك العلمية بعد الانتهاء من قراءته، وربما كان هذا العلم أي التحليل النفسي علما زائفا ومر عليه الزمن، لكن يبقى البحث في معنى النار في الاعتقادات الإنسانية مبحثا مثيرا فهو يمكن أن يشكل بحث أنثروبولوجي أو أدبي أو لغوي أو فلسفي أكثر منه علما.