مشمل أفكار ابن رشد الفيلسوف الذي اتهم بالكفر
في مقطوعته الأدبية الشهيرة الجحيم ، ذكر دانتي آل جيري أنه التقى بابن رشد وصفه دانتي بلقبه الشهير آنذاك المعلق ، لكن وبعد ما يقرب من قرنين من الزمن نرى الفنان رفائيل قدر ابن رشد بعد تكريمه من قبل الفاتيكان برسم صورته ضمن عظماء المفكرين في لوحة مدرسة أثينة الشهيرة ، لكن ما سبب تغير نظرة أوروبا لابن رشد أو روش كما ينطقون اسمه؟ وما خصوصية هذا المفكر الأندلسي عن غيره؟ لماذا يكره رجال الدين ابن رشد ؟
أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد من أبرز فلاسفة ومفكري الأندلس في زمن الخلافة الموحدية اشتهر بأفكاره الثورية ، والذي حاول أن يحدث انقلابا جذريا في فلسفة الدين والتشكيك في كثير مما اعتبره متجذرا والذي حرم النقاش فيه لأنه زعم أن الفلسفة لا يمكن أن تختلف مع الدين بل يكمل أحدهما الآخر ، ينحدر من عائلة أرستقراطية تسلمت مركزا مرموقا في الدولة الموحدية في الأندلسية من أهمها القضاء والفقه ، وجده كان أحد أبرز شيوخ المالكية ، لم يكن ابن رشد قاضيا فقط بل على غرار معاصريه طبيبا ورياضيا وعالم فلك .
وللتوسع أكثر في المسيرة الحياتية لابن رشد اضغط هنا
أفكار ابن رشد
كرس ابن رشد أغلب حياته في محاولة تغيير نهج التفكير في المواضيع الفلسفية والدينية ، معتقدا أن الهوية الإسلامية يجب أن تتجدد بشكل ما ، لكنه لاقى مقاومة شديدة من ذوي الفكر التقليدي والذين رفضوا منهجه ، بل كفروه باتهامه بأنه شكك في الثوابت الراسخة في العقيدة الإسلامية ، لا ننصحهم بدراسة نصوص وأفكار أبو الوليد فلا تكفي لفهم نواياه وغاياته بقدر ما تهمنا الأوضاع السياسية والصراعات في زمنه ، فقد عاش في القرن الثاني عشر في فترة الحروب الصليبية ، هذه الحروب كانت بداية استقلالية فكر الغرب الإسلامي من الشرق بسبب عدة عوامل أهمها فقدان التواصل مع مراكز الفكر مثل بغداد ودمشق ، وكذلك الضغط المستمر من قبل الفرنجة على الحدود الشمالية للدولة المغربية ، فلا يمكن الاستهانة بالمسائل الجغرافية، فمن الملاحظ في تاريخ البشرية أنه كلما ابتعدنا عن مركز الفكر كلما تغير الفكر ، وحول هذه الحالة تكررت مرارا عبر التاريخ ، وربما هي جزء من الطبيعة البشرية.
فبعد أن استحوذ الصليبيون على القدس فترة من الزمن وانكسرت شوكة المسلمين في الشرق ، كان هناك انقسام في الغرب فيما يخص المسائل الفكرية بين المحافظة وبين التي تدعو إلى إعادة النظر في المفاهيم وتفسير الدين بمنظور حديث ، جدير بالذكر أن الأندلس كانت تعيش فترة من الازدهار الاقتصادي والفكري والعمراني في زمن ابن رشد ، مما دفع بالغرب الإسلامي للنظر إلى الشرق بنظرة فيها شيء من الازدراء ، لأن العقيدة اهتزت هناك والأنظمة السياسية تزعزعت كثيرا في التدخلات الصليبية ، وهنا نرى أن أبو الوليد كان أحد الذين حاولوا تجديد الإسلام باتباع المدرسة الكلاسيكية أو المدرسية السلطوية في الفكر .
فوارق التفيكير بين العامة والفلاسفة
كان يرى ابن رشد أن هناك فرقا كبيرا جدا بين تفكير العامة وتفكير الخاصة ، فتفكير الخاصة هم الفلاسفة والعامة هم الناس العاديين ، لكن ومع ذلك لم يدعو ابن رشد الى اعتزال الناس كما فعل مثلا ابن طفيل في كتاب حي بن يقظان ، على العكس من ذلك دعا الفلاسفة الى ارشاد العامة وإلى العمل على اصلاح العامة لكن بطريقة وأسلوب يتناسب ويتلاءم مع طبيعة عقولهم ، اعتبر أن الفلاسفة الذين يصرحون أو يعلنون عن آرائهم الفلسفية بكل وضوح أمام العامة يرتكبون هنا خطأ فادحا لأن العامة أولا لن يستطيعوا أن يدركوا عمق هذه الأفكار ، وثانيا لأنهم قد يفهمونها بطريقة خاطئة وهذا قد يؤدي إما إلى نقمة العامة على الفلاسفة أو إلى تشكك العامة في أمور الدين .
ولكي يوضح أبو الوليد أبعاد هذا الخطأ المرتكب من قبل الفلاسفة ، سنراه سيلجأ إلى التشبيه من عالم الطب وطبعا ابن رشد هو أصلا ذلك الطبيب الماهر البارع ، فقال أن العامة هم كمثل المرضى والفلاسفة هم الأصحاء ، وأضاف أنه لا يجب إطعام المريض من نفس طعام الإنسان المعافى ، إذ من الممكن أن يكون هذا الطعام كمثل السم القاتل هنا للمريض ، ولذلك كان يرى ابو الوليد أن العامة لا ينفع معهم إلا الطريقة التي اتبعها الأنبياء من حيث أن الأنبياء كما يرى ابن رشد عرفوا طبيعة العامة وضربوا لهم الأمثال الحسية التي يفهمونها ويستطيعون إدراك مقاصدها ، أما الأفكار الفلسفية فيجب على الفيلسوف برأي ابو الوليد أن يحتفظ بها لنفسه ، وألا يطلع عليها إلا الفلاسفة أمثاله بمعنى أن الأنبياء كانوا يعلمون العامة ما في وسع العامة أن يفهموه وأن يعملوا به طوعا متى ما بذلوا بعض الجهد وعملوا فيه ما يملكون من قدرة على التفكير.
ابن رشد
وطبعا مارسوا قدرا معينا من كبح جماح النفس والشهوات ، وهذا في نهاية الأمر ما ترمي الشريعة إليه وهو دفع الناس نحو الإيمان وتقويم أخلاق العامة.
ولذلك كان من الطبيعي أن تراعي الشريعة المستوى الذهني للعامة ، وذلك بأن تخاطب الإنسان العامي عبر مخيلته وقلبه بدلا من عقله ، لأن العامة بشكل عام كما يرى ابن رشد تحركهم البراهين الخطابية والأساليب الشعرية الحماسية والأمثال الحسية يعني أكثر من البراهين العقلية .
نظرية التأويل عند ابن رشد
هذه النظرية التي أيضا ستطلعنا على موقف ابن رشد من العامة يعني بشكل واضح وجلي ، باختصار شديد نظرية ابن رشد في التأويل ترتكز على تصور مبدئي رشدي يقول إن الفلسفة والدين كلاهما حق ، والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له ، أي لا يوجد تعارض بين الفلسفة والدين ، أما ما قد نراه من تعارض ظاهر سواء من حيث الأسلوب أو حتى النتائج فعادة لكون الدين يخاطب الناس على قدر عقولها ، بينما الفلسفة تخاطب الخاصة .
أيضا اعتبر ابن رشد أن للنص الديني خاصة آيات القرآن معنيين معنى ظاهر موجه للعامة ، ومعنى باطن موجه للخاصة ولذلك يقول أنه إذا تعارضت آية مثلا بالظاهر مع ما يقرره العقل فذلك لكونها تخاطب العامة بحسب مستوى إدراكها ، أي هناك واجبات على واجبة على العامة وهناك واجبات مختلفة تخص الفيلسوف ، أيضا في مسألة التأويل برأي ابن رشد لا يجوز أن يطلع العامة على نتيجة التأويل ، لأنهم بذلك يطلعون على ما ليس موجها لهم .
آراء ابن رشد في الغيبيات
على الرغم من كل ما قيل في ابن رشد إلا أن الدارس لآرائه يشهد له بالعمق ، وأنه من أوسع الفلاسفة الإسلاميين في العلوم الماورائية ، وله محاولة في ربط الفلسفة بالشريعة في حدود تصوره للشريعة .
فابن رشد يرى أنه إذا وجدت آيات في الكتاب العزيز تضاد الفلسفة ، فإنه يجب تفسيرها على وجهين التفسير الظاهر للآية أو التفسير الروحي الذي هو خاص للفلاسفة بل يقول ما هو أدهى من ذلك ، يقول إن الأنبياء يتقبلون الوحي فيبلغ كونه للشعب والفلاسفة كذلك ، لكن الفلاسفة أنبياء الطبقة العالمة ، فلم يكتف ابو الوليد أن جعل الفلاسفة أنبياء بل فضلهم على سائر الأنبياء بأن جعلهم أنبياء الطبقة العالمة وهذه سخرية من مقام النبوة ، أوجب ابو الوليد إجراء النصوص على ظاهرها كما فعل السلف ، ثم اباح ذلك للعلماء فيما بينهم فقط ، والعلماء عنده هم الفلاسفة.
أشهر أعماله
كانت لابن رشد كتاباته الخاصة وآرائه أهمها جوابه على الغزالي صاحب كتاب تهافت الفلاسفة والذي انتقد خلط الفلسفة اليونانية الوثنية بالعقيدة الإسلامية الموحدة ، فأصدر كتاب تهافت التهافت والذي شدد فيه ابو الوليد على أن كلام القدماء في قدر من الصحة مثلما أن القرآن لا نقاش فيه ، ولا يمكن إهمال حكمهم وأعمالهم لمجرد أنهم وثنيين ، هل من الأفضل عزل جيد من فلسفتهم وتطبيقها في الإسلام ونبذ كل ما يتعارض مع القرآن؟ .
خطأ ابن رشد
اعتمد ابن رشد على الجانب العملي على خلاف المدارس السابقة والتي صنفت على أنها أفلاطونية حيث اعتمدت على المثل العليا بمعزل عن التجربة والخطأ والكثير من أسس الفكر الإسلامي الحديث وخاصة المتشدد يقع تحت تصنيف الأفلاطونية ، ربما كان لينجح في بعض ما أراد إيصاله لكن اقتباسه المبالغ من الفلسفة اليونانية القديمة الوثنية وتشديده على فكر أرسطو بالتحديد جعله في موضع الشك ، لأنه حسب زعم معاصريه يقتبس كلام الكفار عبدة الأوثان ، وللعلم لم يكن الأول في الاقتباس من أرسطو فقد اعتمد واستلهم الكثير من الفلاسفة من الفلسفة اليونانية ، ك الفارابي في بغداد والذي كان من أوائل الذين حاولوا استعادة أكبر قدر من الأعمال اليونانية.
الانتقادات التي تعرض لها
الانتقادات كانت في حقه كثيرة لكن ألخص بضعة منها ، أكثر ما عارضه المفكرون التقليديون في فلسفة ابن رشد كانت جزمه بأن الحياة بعد الموت لا تعني إعادة إحياء الجسد من التراب وما يليه من محاسبة فإما الجنة أو النار ، بل قال أن الحياة بعد الموت معناها زوال الجسد نهائيا وبقاء الروح لأن الروح مع تماس مع الله ، في هذا اختلف مع ابن سينا والذي وضع تعريفه الخاص بالجسد والروح ، بالرغم من أن كلاهما من المعجبين بـ أرسطو ، ادعى أن الكون أو الوجود بلا بداية ولا نهاية ، وهذا اعتراض صريح للكتب السماوية والتي تذكر أن الله خلق الكون في نقطة من الزمن ، ولم يكن هناك شيء قبل ذلك.
اعترض مفكرو عصره على أحد كتبه والتي تعنى بالفلك عندما وصف كوكب الزهرة نقلا عن نصوص اليونانيين القدماء ، سواء كان هذا خطأ في النقل أو كما اتهمها المشركون بالله ، قام الخليفة المنصور بطرده من منصبه ككبير قضاة وحرق كتبه ونفيه.