الغوص في عالم كافكا المعقد المظلم | في متاهة العقل
لم يكن فرانز كافكا من جهة أولى مؤمنا أو متدينا، لم يكن يؤمن بوجود رعاية وعناية تحيط بالعالم أو بالكائنات أو بالإنسان، ولذلك نجد أن كافكا نظر إلى العالم نظرة عبثية، ونظر إلى الوجود الإنساني بوصفه وجود لا يحمل أي قيمة أو معنى، ولا يسير باتجاه أي غاية، طبعا على الرغم من هذا ظل يهوى إله اليهودية طبعا، أو إله طفولة كافكا اليهودية يعني ظل شبحا مخيما على أغلب أفكاره الخفية.
فقد استخدام كافكا المنطق لضرب المنطق، فيصبح كمن يضع لغما صاعقا متفجرا في داخل الفكر الغائي لنسفه من أساسه وداخله، وبالتالي لا تنتهي الرواية عند كافكا إلا ودخان الغموض متناثر في الأرجاء، بمعنى أن كل شيء وكل الأحداث في رواياته قد تدور على السطح في ضوء المنطق الواضح، لكن هذا الوضوح ليس هنا إلا كمثل واجهة تخفي وراءها مثلا قوى العبث من اللامعقول واللا جدوى واللا معنى، فمثلا تبدأ الرواية الشهيرة المحاكمة بجملة عادية رغم غرابتها، ورغم أن الروايات عادة لا تبدأ بهذا الشكل، حيث يتم اعتقال أحد الأشخاص ” جوزيف كاف” ذات صباح دون أن يكون قد اقترف أي ذنب، لا بد أن أحدا دبر مكيدة مثلا لجوزيف كاف، هكذا تبدأ الرواية لتمضي بعد ذلك في سلسلة من الأحداث المترابطة منطقيا.
فرانز كافكا
فنرى أن البطل بعد ذلك لا يعلم بالضبط ما هي التهمة الموجهة إليه كما سنراه سيدخل في إجراءات المحاكمة القضائية المعقدة والروتينية، وسيكون على تماس مع محامين وقضاة، وبالتالي سيضيع جوزيف في دوامة الإجراءات وسيتوه في متاهات القوانين والبيروقراطية والإجراءات وكأنه ذبابة وقعت لسوء حظها في شباك عنكبوت لا يرحم، إلى أن يصل بنا كافكا في النهاية إلى خاتمة مروعة يذبح فيها البطل مثل كلب على قارعة الطريق على حد تعبيره.
ليظل القارئ بعد ذلك في وسط عالم من الإبهام والغموض والأسئلة المحيرة التي لا تنتهي، لماذا قبض على جوزيف؟ هل كان حقا مذنبا؟ هل كان بريئا؟ من الذي أدانه؟ من الذي أوقع به مثلا؟ ولماذا أعدم بهذه الصورة البشعة؟ إلى غيرها من أسئلة كثيرة جدا طبعا تنبع من رحم الحيرة الذي يترك كافكا القارئ في وسط دوامة فيها وهذا هو بالضبط ما تحدثت عنه في البداية، لتكون مهمة هذا القارئ محصورة بعد ذلك في محاولة فك هذه العقد الكاوية بامتياز.
رسائل كافكا ل ميلينا
بعد وفاة كافكا ترك قصاصة كتبها لصديقه برود يرجوه فيها رجاء أخيرا بأن يحرق مخطوطاته غير المنشورة، ومنها رواياته الثلاث غير المكتملة، لكن ماكس ولحسن الحظ لم ينفذ وصية صديقه، نشرت رسائل كافكا إلى ميلينا باللغة الألمانية عام 1952 بعنوان بريد ميلينا، وكانت بالفعل فرصة ذهبية لإعادة قراءة أعمال كافكا من جديد ومحاولة فهم فلسفته بطريقة أخرى، وقد حررها صديقه بعد حذف بعض الفقرات لأسباب مختلفة، أما أول إصدار باللغة الإنجليزية لمجموعة الرسائل فيعود لعام 1953، وقد ترجمها جيمس ونشرت الرسائل مرة أخرى باللغة الألمانية بعد إعادة الفقرات المحذوفة عام 1986، تبعتها ترجمة باللغة الإنجليزية وضعها فيليب بوي عام 1990، وقد تضمنت هذه الطبعة بعض رسائل ميلينا التي توفيت في الأربعينات، إضافة لأربع مقالات كتبتها، أما رسائلها الأخرى التي أرسلتها إلى كافكا فيبدو جليا أنها قد أتلفت.