برتراند راسل | حياته وأفكاره
ولد برتراند أرثر راسل سنة 1872 في المملكة المتحدة ، داخل أسرة ميسورة أرستقراطية لها تأثير كبير ونفوذ فقد كان جده رئيس وزراء المملكة المتحدة سابقا ، وقد فقد والديه وهو في سن 4 سنوات ليرعاه جديه من أبيه ، لم يترعرع برتراند راسل في جو ديني لكنه اهتم منذ طفولته الأولى بالفكر الديني والرياضيات والحياة بعد الموت ، وقد بدأت تساوره شكوك بالوجود الإلاهي وهو في سن 14 ليصبح ملحدا في عمر 18 سنة . وقد درس برتراند راسل الرياضيات في جامعة كمبرج وتخرج منها سنة 1893م ، ليحصل على شهادة أخرى في الفلسفة سنة 1895م .
كانت علاقات برترند راسل مضطردة حيث تزوج أربعة مرات ولا ننسى علاقاته الخارجية المتمثلة في العشيقات ، فزواجه الأول كان سنة 1894م إلى حدود 1921م لكن في الحقيقة أن علاقته مع زوجته انتهت في سنة 1901 بعدما أخبرها أنه لا يحبها ، لكن الطلاق بشكل رسمي لم يتم إلا في سنة 1921 ، وقد خطرت له فكرة أنه لا يحب زوجته وهو راكب فوق الدراجة . لقد كان راسل اشتراكيا واهتم بالفلسفة والمنطق وقد كتب كتابا حاول فيه برهنة أن 1 + 1 = 2 لكن الكتاب شكك فيه الكثير من علماء الرياضيات ، وقد كتب كتاب مبادئ الرياضيات ، ولا ننسى اهتمامه بالتاريخ .
اهتم راسل أيضا بالسياسة فقد كان رافضا للحرب العالمية الأولى وهذا أودى به إلى السجن وفصل من الجامعة . كما كان رافضا للحرب العالمية الثانية لكن غير رأيه في سنة 1944 ، وقد كلفته آراءه الطرد من الجامعة التي كان يعمل فيها ، فقد كان يدعوا للحرية الجنسية ولا ننسى أنه كان مؤيد لحقوق المثليين .
أفكار برتراند راسل
يرى الفيلسوف البريطاني الكبير برتراند راسل أن عقل الإنسان خامل بطبعه لا يميل إلى التجديد ولا إلى التغيير ، ولا يحبذ التخلي عن ما ألفه من أفكار ومن اعتقادات كونت بنيته وتصوراته وآراءه الخاصة ، وبرأيي أن أقوى أو أكثر الأفكار والمعتقدات رسوخا في العقل هي تلك التي يرثها الإنسان من أسلافه ، والأمر هنا ليس فقط محصور بالعقائد الدينية ، بل بكل ما يرثه الإنسان من عادات وأعراف وتقاليد وثقافة شعبية وأساطير حية ومفاهيم مغلوطة ومنحازة . كل هذه الأمور التي تترسخ في داخل العقل طبعا بفعل التلقين والتقليد والتكرار المستمر ، فتصبح مثل مرجعية لهذا العقل وموجهة له والمعيار الذي يقيس عليه .
تحدث راسل عن خمسة من العوامل والأسباب النفسية والاجتماعية التي من وجهة نظره تقف وراء هذا السلوك العقلي الذي يرفض التجديد ويفضل البقاء على ما هو عليه . وهذه العوامل الخمسة ترتبط بخمسة مفاهيم وهي الثقة والخوف ، الكسل ، النرجسية ، الجهل والسلطة .
الثقة
أولا يأتي عامل الثقة المرتبط بشكل أو بآخر بعامل الخوف ، فالعقل برأي راسل يثق بما لديه من أفكار ومعتقدات قديمة بنى عليها كل منظومته الفكرية ، ويخاف بالمقابل من الجديدة أو من أي جديد باعتباره مجهول ، بمعنى أن العقل يفضل أن يبقى على ما هو عليه . يعني حتى لو كان سيئا بدل أن يغامر بجديد قد يكون ربما أسوأ ، ولذلك نلاحظ أن أغلب الناس لا تثق إلا بما تعرفه ، ولا تعتمد إلا على ما اكتسبته شخصيا أو بالخبرة الشخصية ، ولا تحاول أن تفكر إلا من ضمن الإطار الذي اعتادت على التفكير من خلاله . وهذا طبعا في النهاية ما يبقي العقل في حالة من الجمود والقصور ، وبرأي راسل أن ما يعرف بالثوابت والمسلمات الفكرية هي أكبر جريمة ارتكبت بحق العقل لأنها هي التي توصل إلى هذا الجمود .
بينما التفكير الذي بلا حدود هو أهم سمة من سمات التفكير الحر
الكسل
العامل الثاني مرتبط بالكسل أو الخمول ، فالعقل يفضل راحة التسليم على مشقة التفكير ، فالتفكير يحتاج بطبيعة الحال لبذل مجهود مبني وكبير للفهم أو للهدم مع كل ما يتخلل هذه العملية من استنزاف للطاقة طبعا من أجل الدراسة والتحليل والمراجعة ، وعقد المقارنات هنا والمقاربات هناك إلى آخره ، يعني كما نقول وجع رأس لا أول له ولا آخر فلماذا كل هذه المشقة ؟ ، أنا أملك أفكاري أملك معتقداتي وأملك إجاباتي التي تغنينا عن دخول كل هذا المعترك الشاق ، لذلك يفضل هذا العقل أن يبقى أو أن يسلم أو أن يستسلم لراحة ما هو موجود.
النرجسية
العامل الثالث له علاقة بنرجسية الإنسان ، هذه النرجسية أو هذا الإنسان الذي لا يتقبل فكرة أنه على خطأ حتى في بعض الأحيان قد يتعلق الأمر بأفكار وآراء جانبية وهامشية ، فكيف الحال عندما يكون الموضوع مرتبط بمعتقد سواء ديني أو أيديولوجي أو بمنظومة فكرية أو بفكر ما؟ يعني لربما أفنى هذا الإنسان في سبيله عمره وجهده ، وحتى ربما قدم من أجله تضحيات جسام ، يعني كيف ستقنع هذا الإنسان أنه كان على خطأ؟ كيف سيتقبل هو فكرة أنه على خطأ أو أن ما كان يراه ذا قيمة كبرى هو في الحقيقة لا قيمة له ، هذا طبعا يمثل طعنة في صميم النرجسية .
هذا الإنسان وفي صميم كل تركيبته النفسية والشخصية والعقلية التي أصلا تمحورت وتمركزت حول ما يؤمن به من أفكار ومعتقدات ، وهذا ما سيدفعه طبعا لمقاومة الجديد بكل ما أوتي من قوة بغض النظر عن ماهية هذا الجديد ، وبالمقابل لربما سيستمر في الدفاع عن القديم.
الجهل
العامل الرابع يتمثل في الجهل لأن الجهل بطبيعة الحال يعني نقيض كامل للعلم والمعرفة والجاهل يمثل عقبة كأداء أمام أي تقدم ، بل وأرض خصبة ومرتع لتحكم الخرافات والأوهام والأساطير والأمور الغير معقولة بالعقل ، وطبعا يتجلى تأثير الجهل في عدة مناحي وأمور مثلا في رفض العقل لحقائق كثيرة لصالح الخرافة والمغالطة ، أو مثلا بمحاولة الجمع أحيانا بين الخرافة والعلم أو التفكير المنطقي عند تحليل موضوع أو قضية ما ، وهذا أمر لن يوصل إلا إلى ما هو أخطر ربما من الجهل ، وهو ادعاء المعرفة ، الجهل يوصل إلى العبودية الفكرية وتسليم عقل إنسان للآخر ليفكر يعني نيابة عنه.
السلطة
العامل الخامس والأخير يتمثل في تأثير السلطة ، فهناك سلطات قاهرة تمارس التأثير على العقل وتبقيه في حيز الجمود والقصور طبعا خدمة لمصالحها ، كالسلطة السياسية أو السلطة الدينية حتى الأيديولوجيات الحزبية والسياسية ، وطبعا وسائل الإعلام وأحيانا السلطة الاقتصادية ، إضافة لقوة المعتقدات الشعبية والعادات والأعراف وسلطة القبيلة أو العائلة إذا كنا نتحدث عن مجتمع قبلي عشائري ، فكل هذه الأمور تمارس سلطة قاهرة سلبية على العقل البشري ، كل هذه دوافع وأسباب كما يرى رسل ساعدت وتساعد على إبقاء العقل في حالة من الخمول والجمود. طبعا لينتهي راسل بعد بحث طويل إلى خلاصة مفادها أن حرية الفكر هي الشرط الأول لخروج العقل من قصوره وجموده ، لأن كل العوامل التي حددناها قبل قليل تقوم على أساس تقييد العقل وتقنين الفكر .
الحرية الفكرية التي يدعو لها راسل طبعا هي بمفهومها العام الواسع تشمل حرية التفكير دون أي وسطات أو حدود وحرية الرأي وحرية التعبير وحرية الاعتقاد وحرية النقد والنقاش ، وعدم وضع خطوط حمراء أمام العقل وحفظ حق كل إنسان في سيادته الكاملة على عقله وفكره وجسده أيضا ؛ هذه الحرية حرية الفكر بمعناها الواسع هي كما يرى برتراند راسل هي المعيار ومقياس تقدم أي فرد أو مجتمع ، فتقدم أي مجتمع هو مقدار الحرية الموجودة في داخله ومقدار الحرية التي يتمتع بها أفراده.
المجتمع المتقدم هو المجتمع الذي تصان فيه حرية الفرد بكل تجلياتها ، وليس معيار التقدم لأي مجتمع أو دولة أو أمة يكمن مثلا في القوة الاقتصادية أو العسكرية ، بل هو في مدى شيوع ثقافة الحرية واحترام الرأي والرأي الآخر والانفتاح على مجمل التجارب الإنسانية الغنية ، هذا فقط برأي راسل من شأنه أن يخفف التعصب وأن يقلل الاختلافات وأن يعزز الاحترام والسلام ، وأن يفتح آفاق رحبة جديدة أمام الإبداع والتجديد والتطوير الذي في نهاية الأمر سيرتقي بالمجتمع وبكامل أفراده .