العصور الوسطى نظرة مغلوطة على الحضارة الإسلامية | حكاية أوربية فقط
“قرون من الظلام والجهل والتخلف انتهت عند موعد احتكاك الغرب بالشرق من خلال الحروب الصليبية، تجمع مخطوطات العلوم الإغريقية والرومانية التي حفظها المسلمين بدون أن يفهموا منها شيئا، وهكذا سلموا الأمانة للأوروبيين وعادوا إلى خيامهم، جمالهم ونمط حياته، في حين مضت أوروبا إلى عصر النهضة وعصر الأنوار ونشر العلم والحضارة والمعرفة من جديد، وهكذا تخلصنا من العصور الوسطى” يعلق أستاذ التاريخ مارك غراهام قائلا ما سيفاجئ الملايين من الناس من هذه الأجيال الذين أجبروا على تعلم هذه الرواية للأحداث هو أن ذلك محض خرافة، أين تكمن الخرافة في هذه الرواية؟
يلخص المؤرخون الغربيون قصة العصور الوسطى على الشكل التالي، بعد سقوط روما انتهت العصور القديمة الزاخرة بالمنتجات الفلسفية الإغريقية وإبداعات النظم القانونية الرومانية، وبدت العصور الوسطى التي أصبحت السيادة فيها للكنيسة فعم الجهل وهيمن التخلف واستقر العلم مدة طويلة من الزمن، ولكن بعد ذلك وتحديدا في القرن الخامس عشر والسادس عشر سيثور الناس ضد الكنيسة أو يتخلصون من قيودها واستقلالها لتحدث نهضة علمية وأدبية وفنية مرتكزة على التراث اليوناني القديم، فكانت تلك هي لحظة ولادة عصر النهضة العصر الذي أنقذ البشرية من الجهل والظلام ونقلنا إلى بحار العلم والتنوير.
الرواية الشائعة حول العصور الوسطى في الغرب
ولكن إذا بحثنا وراء هذا التقسيم سنجده يقوم على فكرة أساسية جعلت هذا التقسيم ضروري لبناء السردية بشكل كامل، وهي فكرة تشويه دور الدين الحضاري وخلق أسطورة عصر النهضة الأوربية.
في هذه الفترة كانت السيطرة العلمية فيها للكنيسة التي كانت تقف في وجه المعرفة ونشر التعلم والقراءة والكتابة، والدافع الأول لمحاربة العلم كان بهدف منع عامة الناس من الوصول إلى مضمون الكتاب المقدس بدون وسيط من الكنيسة، فبحسب اعتقادهم أنه ليس كل الأشخاص مؤهلين لقراءة هذا الكتاب لذلك من الأسلم أن يبقى المجتمع جاهل، وهذا التوجه الكنسي وافق هوى ملوك أوروبا واتحد مع أهدافهم، فمن جهتهم اعتقدوا بأن تجهيل شعوبهم يضمن لهم الاستقرار السياسي والأمن المجتمعي فجاءت فكرة عصور الظلام لإثبات أن الدين كان يقف خلف هذا الجهل والتخلف، وأن التخلص منه هو الحل الأسلم لخلاص البشرية وتقدمها، وهذا ما حصل في عصر النهضة عندما انسلخ علماء الغرب من الدين وتحرره من مبادئ أو قيوده وبدأوا بالاهتمام بالعلم الوضعي، فانطلق عصر النهضة وتمجيد العلم والمعرفة.
الحقيقة المخفية من الرواية
من ذاك الوقت حتى يومنا هذا تستمر نفس الرواية خلاصتها أن إعادة الاعتبار للدين وتفعيل أحكامه في الحياة العامة سيرجع الناس للعصور الوسطى عصور التخلف والظلام، لكن هذه النتيجة التي توصل لها الفكر الغربي أغفلت أمرين في غاية الأهمية الأول هو أن حالة الانحدار والتخلف الأوروبي لم يكن من الدين نفسه بل من استبداد رجال الكنيسة، أما الأمر الأخر الذي لم ينتبه له إلا قلة قليلة من المؤرخين هو أن أوروبا ليست هي العالم وأن تخلف الغرب لا يعني تخلف الشرق ( يمكنك قراءة مقالة لماذا لم تكن هناك عصور وسطى اسلامية عبر الضغط هنا )، إذا استوعبنا هذه النقطتين سوف يتحطم أمامنا جانب كبير من خرافة العصور الوسطى.
فمصطلح العصور الوسطى له دلالة سلبية مرتبطة بالجهل والظلام والتخلف، وبنفس الوقت مصطلح يستخدم لوصف حقبة زمنية محددة من التاريخ الأوروبي، لذلك من الخطأ تعميمه واستخدامه لوصف حقبة زمنية تخص تاريخ أخر مثل التاريخ الإسلامي، يعني ببساطة لا يصح أن نقول عن مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي عصور وسطى إسلامية إلا في حالة واحدة فقط إذا كانت هذه المرحلة متزامنة مع العصور الوسطى الأوروبية وتتطابق أحوالها وأوضاعها وتتشابه بين العالمين العالم الإسلامي والأوروبي.
العصور الوسطى
فمن خلال كتاب لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟ يأخذنا المؤرخ توماس باور في رحلة عبر الزمن لمشاهدة ظواهر الحياة اليومية والاجتماعية والثقافية في العالم الإسلامي والعالم الأوروبي في تلك المرحلة من الظواهر اللطيفة التي التقطها توماس باور للتعبير عن الفارق الحضاري انتشار الحمامات العامة، فيذكر أن ثقافة بناء الحمامات العامة أو ارتيادها كانت منتشرة بشكل واسع في العالم الإسلامي، ليس فقط في المدن المنشأة حديثا، بل حتى في المناطق الريفية والمدن الهامشية، فكان ارتياد الحمامات جزء من حياة الناس، فالبعض يذهب للحمام من أجل المتعة والاسترخاء، والبعض يذهب من أجل الطهارة الدينية مثل الوضوء والاغتسال، وكان من ثقافة الناس ارتياد الحمام قبل ارتداء الملابس الجديدة، وعندما يتعافى الإنسان من مرض، وكذلك يعتبر الذهاب للحمام شيء أساسي بالنسبة للعريس وأصدقائه استعدادا للاحتفال بالزواج.
ولو وجهنا النظر لرصد هذا الجانب في مدن أوروبا في ذاك الوقت مثل باريس وروما وغيرها، سوف نكتشف أن من غير المتصور أن الإنسان الأوروبي يذهب للحمام للاغتسال أو لأي غرض من الأغراض، والسبب بكل بساطة لا يوجد حمامات عامة هناك أصلا، زاوية أخرى يلتقطها المؤلف لمقارنة العصور الوسطى الغربية بنفس الفترة الزمنية في العالم الإسلامي وهي الأمية، الأمية كانت الوضع الطبيعي في العالم الغربي فالقراءة والكتابة مهارة استثنائية لا يملكها إلا النوادر، من عام ستمئة من الميلاد لم يكن هناك أحد لديه القدرة على الكتابة غير رجال الدين، وبالمقابل كانت نسبة الأمية متدنية جدا في العالم الإسلامي، فغالب الناس يعرفون القراءة والكتابة ابتداء من الخليفة الذي دائما يكون مثقف ثقافة عالية ورفيعة، وجرى تأديبه وتعليمه على يد أشهر الشيوخ والمعلمين، وانتهاء بالأوساط الحرفية التي أخرجت شخصيات أدبية وعلمية تملأ كتب التاريخ.
العصور الوسطى
وفي الوقت الذي كان فيه معظم فرسان الحروب الصليبية أميين، كان في الجانب الأخر يقاتلهم أسامة ابن منقذ القائد البطل والكاتب الأديب، وبجانب معاركه البطولية كان يكتب القصائد والمذكرات ويسجل مختاراته الأدبية، على مستوى أخر يرصد المؤلف التباين بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية على مستوى التسامح والانفتاح على الأخرين، كراهية الأجانب كانت غريبة على المجتمعات الإسلامية في ذاك الوقت، خاصة أن أغلب المجتمعات كانت متعددة الأعراق وكلها تم استيعابها في إطار الإسلام، لذلك لم يكونوا يشعرون بأن الأجانب مهددين لهويتهم على عكس صورة العالم المتمركز عرقيا التي ميزت العصور الوسطى، تميل كما يعبر توماس باور إلى الحط من جميع البشر الذين لا ينتمون إلى دائرتهم الثقافية، هذا الأمر انعكس على تقبل المجتمعات الإسلامية لوجود أقليات دينية تعيش بينهم وتكفل لهم حقوقهم دون التعرض للظلم والاضطهاد.
لذلك يقول توماس باور إن وجود غير المسلمين في العالم الإسلامي كان أمر طبيعي جدا، أما وجود غير المسيحيين في العالم المسيحي كان أمر مستحيل باستثناء بعض اليهود الذي عاشوا تحت ظلم واضطهاد، ولفهم الحال الذي كان عليه اليهود في العالم المسيحي عندما اجتاح الطاعون أوروبا، كان اليه88ود أول المتهمين بالتسبب في هذا المرض بعد ما أشيع عنهم أنهم ذو عظام سامة، نتيجة لهذا قررت عشرات المدن الألمانية مداهمة منازل اليه88ود وطردهم من هذه القرى، وفي سويسرا أعدم عشرات اليه88ود حرفيا بسبب هذه الاتهامات.
العالم الإسلامي
أما ميدان العلم والمعرفة فالنهضة العلمية الشاملة في العالم الإسلامي معروفة، فالزمن الذي كان يسمى عصور وسطى مظلمة في أوروبا كان يطلق عليه المؤرخين العصر الذهبي في العالم الإسلامي، فعلى مستوى المؤسسات التعليمية أنشئت أول جامعة في العالم وهي جامعة القرويين في فاس بالمغرب، وتأسس بيت الحكمة الذي اعتبر أضخم مؤسسة علمية تختص بترجمة التراث اليوناني والفارسي والهندي والسرياني، وكانت هناك نهضة ثقافية واهتمام بالمكتبات على وجه الخصوص، وظهرت بالحضارة الإسلامية أنواع متعددة من المكتبات، فوجدت المكتبات في قصور الخلفاء وفي المدارس والكتاتيب والجوامع، وكما وجدت في المدن الكبرى وجدت كذلك في القرى النائية والأماكن البعيدة، ومن أشهرها بيت الحكمة في بغداد ودار الحكمة في مصر ومكتبة قرطبة والقائمة تطول؛ وفي هذا يقول ويل ديورانت مؤرخ الحضارات “ولم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد أخر من بلاد العالم، اللهم إلا في بلاد الصين في عهد منج هوانج ما بلغه في بلاد الإسلام في القرن الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر”.
كان العلماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة إلى سمرقند يوازي عددهم عدد ما فيها من الأعمدة، وكل هذا يجعل فكرة العصور الوسطى محض خرافة لا تنطبق بأي حال من الأحوال على العالم الإسلامي، وطالما أتينا بذكر الصين كيف كانت أحوالها في ذلك الزمان من جهة التحضر والتخلف، عاشت الصين قمة ازدهارها الحضاري في عهد سلالة سونغ التي استمرت بين القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي، فشهدت نهضة علمية وأدبية وتجارية وصناعية.
الصين أكفأ من الحضارة الغربية في العصور الوسطى وعصر النهضة
ففي عام 1540 من الميلاد اخترع الصينيين الطباعة بواسطة مجموعة من الحروف المطبوعة القابلة للتحريك، وبهذه الطريقة طبعت الكثير من الأعمال الفلسفية والعلمية والأعمال الكلاسيكية والموسوعات والتي عادة ما تكون مدعومة بالصور المطبوعة، وحدث ارتفاع في أعداد المدارس والأكاديميات الخاصة نتج عنه في القرن الثاني عشر تأسيس الجامعة الوطنية، هذا إلى جانب الكثير من الاختراعات التي سهلت الحياة اليومية مثل العملات الورقية التي ظهرت لأول مرة في التاريخ في الصين خلال هذه الحقبة، وانتشار نظام الامتحان لاختبار موظفي الدولة.
كان تميز الصينيين عن غيرهم يكمن في الناحية العملية كما يشير إلى ذلك توبي هاف في كتابه فجر العلم الحديث الإسلام والصين والغرب، حيث يقول كانت الحضارة الصينية أكفأ بكثير من الحضارة الغربية في تسخير المعرفة الإنسانية الطبيعية للحاجات البشرية العملية، وبطبيعة الحال يقارن الصين بأوروبا بعد عصر النهضة وليس قبلها، فكيف لو قارنها بما قبل عصر النهضة؟.
العصور الوسطى
بعد هذه الرحلة السريعة من الغرب إلى أقصى الشرق خلال حقبة زمنية واحدة، يظهر لنا بشكل واضح تباين الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من جوانب الحياة، فأثناء مرحلة الانحطاط التي عاشها الغرب كانت حضارات الشرق تتنعم بأنوار العلم والازدهار الحضاري، لذلك من الخطأ اقتباس مصطلح العصور الوسطى واستعماله لوصف مرحلة من مراحل تاريخنا الإسلامي، فهو وصف غير بريء ويحمل دلالة سلبية تخص ثقافة أخرى ومنطقة جغرافية مختلفة، الأمر الأخر الذي يوجب علينا التوقف عن استعمال هذا المصطلح عندما نتكلم على تاريخنا، إن مصطلح القرون الوسطى انطلق من المركزية الغربية، بمعنى أن يصبح التاريخ الأوروبي هو تاريخ العالم وليس تاريخ أوروبا، وهذا غير صحيح، ينبهنا المسيري لهذه النقطة عندما قال إن المصطلح المستورد من حضارة أخرى يحمل وجهة نظر صاحبه، وكثيرا ما يضع صاحب المصطلح نفسه في المركز ويعيد ترتيب التفاصيل حسبما يتفق ورؤيته .