الثورة الصناعية هل هو نعمة أم نقمة؟ | من الآلة البخارية إلى الذكاء الاصطناعي

شهد العالم منذ الثورة الزراعية الأولى للإنسان تحولات دينامية كبرى في تطور البشرية، وظل الإنسان خلال تاريخه على الأرض يطور مهاراته وقراته في التكيف والسيطرة على المجال أو الطبيعة، وذلك لتسخيرها لخدمته، ولعل أن الثورة الزراعية الثانية التي حدثت في أوربا في القرن 17 و18م كان لها وقع كبير في انعطاف تاريخي سيقود البشر إلى تزايد كبير في عدد السكان، وبفعل أن الأرض إنتاجها رغم كل المحاولات في تحسين الإنتاج يظل محدودا، فبدأ الإنسان يبحث عن طرق أكثر نجاعة في تطوير اقتصاده وحياته، فكان الحل هو اللجوء إلى الصناعة التي يعد انتجها غير محدود ما دام يوجد أيد عاملة.

 وقد واتت الظروف بريطانيا لتقود هذا الصرح العظيم، بفعل أسطولها التجاري الذي كان يجوب العالم خلال القرنين 16 و 17م وتحسن أكثر في القرن 18م و 19م، اثر القوانين التي أصدرتها بريطانيا في تلك القرون مما أتاحت حرية التجارة، عكس ما كان سائدا في القرن  15م بفعل النظام المريكانتيلي الذي كان يمنع من اقتناء المنتوجات بالمعادن النفيسة، مما جعل التجارة في ذلك الوقت محدودة جدا بين الدول الأوربية، واقتصرت الاقتصادات على التجارة الداخلية أو استغلال العالم الجديد، بل دولا كإسبانيا تضرر اقتصادها بشكل كارثي إثر النظام المريكانتيلي، حيث أدى تجميع المعادن النفيسة التي كانت تأتي من العالم الجديد، وعدم وجود منتوجات أو استثمارات تصرف فيها هذه الكميات الرهيبة من المعادن، أدى ذلك إلى حدوث تضخم قاد البلاد إلى أزمة اقتصادية دامت لقرون طويلة، جعلت من اسبانيا دولة ضعيفة رغم امتدادها الجغرافي الكبير في ذلك الوقت.

إقرأ الفقرة التي تهمك إذا لم تكن تريد قراءة كل شيء

العالم قبل الثورة التقنية

عرفت أوربا في أواخر القرن 18م وبداية القرن 19م حربا واسعة النطاق سميت بالحروب النابليونية “التي كان يقودها نابليون بونابرت”، هذا جعل الدول الأوربية التي خرجت من هذه الحرب منهكة اقتصاديا، إلا بريطانيا، فهذه الأخيرة لم يغزوا أي جيش أرضها، وإنما مشاركتها كانت دائما حربا بالوكالة أو حربا في أراض غيرها، هذا جعل الدمار يبتعد عنها، على عكس فرنسا وإسبانيا والبرتغال والأراضي المنخفضة وبروسيا والنمسا وروسيا، التي كانت الحرب تمزق بلادها وتحرق منتوجاتها، هذا مترتب عليه أن تكون بريطانيا هي السباقة إلى الثورة الصناعية خاصة وأنها قادت ثورتها السياسية بقرن قبل الثورة الفرنسية مما خلق نوعا من السلم والرضى السياسي داخل بريطانيا ” غير إيرلندا التي كانت دائما تثور”، فقد لعب الاستقرار السياسي دورا كبيرا في انتقال بريطانيا نحو الصناعة.

بالإضافة إلى ذلك كانت بريطانيا تمتلك الفحم الحجري والمعادن بالإضافة إلى عالم جديد مليء بالثروات، هذا ستسهل عليها عملية التحول نحو الصناعة، ولا ننسى أن بريطانيا كانت تمتلك جامعات عريقة تنتج عقولا علمية تطور التقنيات التي ستقود المجال الصناعي، كما لعب تطوير المواصلات “القطارات، البواخر…” إلى تسهيل نقل المواد الأولية من مكان استخراجها إلى المدن التي ستعرف انفجارا ديموغرافيا كبيرا، وهنا يجب أن نذكر أن غالبية الدول الأوربية في القرن 19م كانت ريفية، ففرنسا وهولندا ونمسا وروسيا وبروسيا لم تكن فيها مدن كبرى بشكل كبير، عكس بريطانيا وبلجيكا التي كانت هي الأخرى خاضعة لحكم بريطانيا بطريقة غير مباشرة في ذلك الوقت، ولعل أن انشغال الدول الأوربية في مستنقعات الحروب حال دون الاهتمام بتطوير اقتصاداتها.

مظاهر الثورة الصناعية

رغم أنه من الواجب ذكر المظاهر الإيجابية للثورة الصناعية، التي كانت متمثلة في تطوير عدة تقنيات ولعل أهمها الآلة البخارية، والنول الميكانيكي، والسكك الحديدية، والآلات التحكمية، والتحول نحو المكننة في المصانع والاستغناء عن اليد العاملة، والذي سيقود إلى انتشار البطالة بشكل رهيب سيجعل معدلات الفقر ترتفع، ويصبح الإنسان بلا روح وبلا سكن وبلا غذاء، مما يخلق مجتمعا محتقنا تسوده الجريمة ومظاهر الانحلال الأخلاقي بانتشار دور الدع|||ارة، ولعل أبرز المظاهر السلبية التي ظهرت اثر الثورة الصناعية وهي تشغيل الأطفال لمدة تصل 16 ساعة في ظروف مأساوية، كل هذا كان على أكتاف طبقة البروليتارية التي كانت تمثل أدنى طبقات المجتمع، في المقابل كانت تصعد طبقة جديدة في المجتمع وهي الطبقة البرجوازية، التي ستقود العالم فيما بعد على حساب النبلاء.

وقد جعلت الثورة الصناعية المرأة تخرج لسوق العمل وذلك بسبب تردي مستويات العيش، مما حتم على الجميع الخروج للعمل وتقاضي أجور زاهدة جدا، في المقابل كانت الضرائب عالية على الجميع وخاصة على الفقراء، كما عرفت الشعوب الأوربية في هذه الفترة وخاصة رائدة الصناعة بريطانيا انتشار الأمية بشكل كبير خاصة الأطفال الذين يعتبرون هم المستقبل، فقد كانت بعض الجمعيات هي التي تعمل على تعليم الأطفال بشكل مجاني وكان غالبيته كنسيا، وأغلب من يقومون بالتعليم أشخاص غير مؤهلين، كل هذه الأمور ستقود إلى ظهور تيار يحارب هذه المظالم وكان أبرزها التيار الاشتراكي الذي سيقوده كارل ماركس الذي عاش أخر أيامه في بريطانيا وانجلز.

انتشار الثورة الصناعية

فمع انتهاء الحروب النابليون والتحالفات لفرض النظرة الرجعية على المجتمع الأوربي، جعل الشعوب تغلي بعد أن دخلت أفكار الثورة الفرنسية إلى وجدان كل حر يريد الحرية، وبفعل التراكمات وسوء حال الجماهير قررت الثورة على حكامها من جديد  في سنة 1830 و 1849م، وهذه الثورات كانت آملة في تغير أحوالها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما جعلها تختار اختيار بريطانيا لتفتح أسواقها وعقولها نحو التحول للصناعة، خاصة ألمانيا التي ستصبح قطبا صناعيا في أوربا والعالم ينافس بريطانيا، رغم أن المنتوجات الألمانية في بداية الأمر كانت ضعيفة الجودة ورخيصة، إلا أنها غيرت من هذه الاستراتيجية لتحسن من جودة منتوجاتها، وهذا ما خلق نوعا من الصراع الاقتصادي والذي سيتحول إلى صراع سياسي وعسكري فيما بعد.

كما أن فرنسا التي عرفت ثورة شعبية في سنة 1830م ستغير من أسلوب الحكم المطلق والاضطرابات السياسية التي كانت تعيشها اثر سقوط نابليون، هذه الثورة ستقود لويس فليب إلى سدة الحكم مما سيخلق نوعا من الاستقرار السياسي، والذي سيقود إلى تحسن أحوال الاقتصاد الفرنسي، والتحول نحو المجال الصناعي الذي كانت دول مجاورة كبريطانيا قد خطت خطوات كبيرة فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى