لماذا التفاهة تغزوا عالمنا ؟ | وكيفية التخلص منها

يرسم المفكر الكندي آلان دون صورة بانورامية لسيطرة التافهين وسيادة التفاهة وتحولها إلى نظام اجتماعي يحكم العالم عندما تصبح مستقطبة للشباب ، أصبح المجتمع مهتم بالمشادات كلامية بين المشاهير والنقاش حول أجمل قميص ، كما تنفق المليارات على برامج وأمسيات يجتمع فيها الخبراء لاختيار أجمل عيون أو خصر منحوت ، في زمن لم تعد فيه المعرفة هدفا وإنما القشور هي كل ما يريده الجمهور ، تحاول فريدة النهوض بمستوى المعرفة والغوص في الأسباب المفترضة التي جعلت الناس سذجا يجذبون دون تفكير هل التفاهة جزء من كينونة البشر للهروب من ثقل نمط الحياة الحديثة؟ أم أنها سياسة حكومات لجعل الشعوب غارقة في السطحية وانعدام الثقافة؟ هل يمكن العثور على منبع الرداءة الأول؟ فلا دخان بلا نار ، وما هو الوريد الملائم لحقن المصل المضاد لنظام التفاهة؟

أسباب انتشار التفاهة

إذا كنت مخيرا أن تسلك أحد طريقين الأول صعب وشاق ونتائجه بعيدة ، أما الثاني فهو سهل وسريع ونتائجه مضمونة يتهافت إليه الناس لما فيه من شهرة ومال ، بلا شعور تترقب الموجة وتسبح مع التيار في بحر التفاهة فهو الأسهل لتحقيق الأحلام لم يعد أحد يحلم بالمعرفة ، بل لو سألت طفلا عن حلمه سيجيبك أنه يحلم بسيارة فاخرة وفتاة جميلة ومنزل كبير وحسابات بنكية فيها أموال كثيرة ، ليس مهما مصدر هذا المال فهو مقدم على كل القيم ، جاءت التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل لتحقق هذا الحلم ، إذ أصبح بإمكان أي شخص يروج لأمور تافهة لا قيمة لها أن يجني الأرباح بمجرد زيادة عدد مشاهداته على تيك توك أو يوتيوب بغض النظر عما يقدمه متفوقا على أي محتوى هادف ، فهنا لا أهمية للقيمة العلمية طالما أنها غير مربحة .

هل تعلم أن مستخدمي تطبيق توك توك ينفقون عليه أكثر من خمسين مليون دولار أمريكي مضاعفا من أرباح شركة بايت دانس المالكة للتطبيق إلى أربعة وثلاثين مليار وثلاثمائة مليون دولار في العام الماضي .

 يشكل المراهقون 41%  من مستخدمي هذا التطبيق الذي يتميز بمقاطع فيديو قصيرة وسريعة تحقق مشاهدات عالية وأرباحا سريعة بغض النظر عن رداءة المحتوى الذي يقدمونه ، ويمكن أن تصل أرباحك على تيك توك إلى عشرة آلاف دولار شهريا إذا تم استغلال التطبيق بالشكل الأمثل ، يعني إذا كنت تعرف ترقص على أغنية ، أي أنهم يمهدون الطريق وبشكل خفي لجعل التافهين محط أنظار العالم وربما قدوة لأبناء جيلهم ، أستحضر هنا مقولة للكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو “اسمعوني هذه المواقع تمنح حق الكلام لـ فيالق من الحمقى الذين كانوا يتكلمون في المقاهي فقط دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع ، أما الآن فلهم حق الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل”  .

مشروع التفاهة أكثر تعقيدا

 صحيح قد يتبادر لذهنك كمشاهد عربي أن التفاهة تقتصر على وسائل الإعلام المسيطرة على حياتنا والتي نجحت في ترميز التافهين ، لكن الحقيقة أنها أوسع انتشارا وأعمق مما كنا نتخيل ، حيث وصلت للنظام الاقتصادي والسياسي وحتى المؤسسات التعليمية ، فقد أصبح المعلم يلقن تلامذتها المعلومات كالببغاوات وفقدت الجامعات دورها وأصبحت مكانا لتفريخ خبراء يمثلون السلطة لا المثقفين ، فالمثقف يحمل التزاما أخلاقيا تجاه القيم والمثل العليا ، والأستاذ الجامعي الذي يسعى لجعل الطلبة علماء مثقفين ويتم تنحيته بكسره نظام اللعبة ، فكل نشاط في الفضاء العام السياسي او الاعلامي أو تجاري صار اقرب للعبة يلعبها الجميع .

 رغم ان لا أحد يتكلم عنها لا قواعد مكتوبة لهذه اللعبة لكنها تتمثل بالانتماء الى كيان كبير تستبعد القيم فيه من الاعتبار وتختزل الحياة الى مجرد حسابات ، ومصالح متعلقة بالربح والخسارة كالمال والثروة او الشهرة والعلاقات الاجتماعية ، وذلك الى ان يصاب المجتمع بالفساد فيفقد الناس تدريجيا اهتمامهم بالشأن العام وتقتصر همومهم على الشأن الخاص اي وعلى الانانية ، وهكذا نكون قد خضعنا للقواعد ونلعب اللعبة .

 السؤال الذي يطرح نفسه هل يقتصر نظام التفاهة على ضعيف الفكر الذي يأخذ الأمور ببساطة كما يتبادر إلى الذهن؟ بالطبع لا فالمصطلح أعقد من ذلك بكثير ، نظام التفاهة يا عزيزي يعبر عن الأميين الجدد أو أشباه المثقفين أصحاب الشهادات العليا ، لكنهم يتميزون بالحيادية المطلقة لا يملكون ملكة المنطق ولا التفكير النقدي ، تسهل السيطرة عليهم ويعترضون ولا يعارضون وهذا هو المطلوب تماما لأن الإنسان الذي يفكر خارج الصندوق وخارج ما يراد له هو عشبة ضارة يجب اقتلاعها ، الهرج والمرج الرقص واللعب في العالم الافتراضي وعلى أرض الواقع .

حياتنا اليوم وسط نظام الخزعبالات

الشباب والمراهقون منغمسون في الانيمي والبرمجة والرياضة والغناء ، هذه الاستراتيجية مستخدمة في كل المجتمعات الغربية والديمقراطية والعربية ، ممكن حل معين يعني فهذا الإنغماس يبعدون الناس عن القضايا الهامة ويخبرهم عما يحدث حولهم ويريح السلطة الحاكمة ويؤمن لها الهدوء والاستقرار ، وهذا ما يتقاطع مع أهداف الشركات الرأسمالية التي كرست سلطة التافهين وحولت كل شيء في العالم إلى مادة استهلاكية ، بالتأكيد سمعت بشركة ميتا واحدة من كبرى الشركات الرأسمالية العالمية والأكثر ربحا ، ما هي السلعة التي تنتجها وتبيعها؟ وكيف يمكنها تحقيق الأرباح؟ شركة كهذه لا تقارن حتما بشركات السيارات أو المعدات الكهربائية التي تقدم الخدمات الملموسة ولا حتى بشركات الإنترنت والأجهزة الخلوية .

 ولكنها وخلال سنوات قليلة استطاعت السيطرة ، على أغلب التطبيقات الرائجة من فيسبوك وواتساب وانستغرام ، وصولا إلى تطبيقات الواقع الافتراضي دي آر واللياقة البدنية وحتى تطبيقات إدارة علاقات العملاء ، لم تسلم منها منطقة عادت عليها هذه الإستحواذات ب مليارات ومليارات من الدولارات ، فما هو سبب هذه الرغبة الجامحة؟ إنه الاحتكار يا عزيزي والقدرة على التوجيه وإدارة المحتوى المقدم بشكل كامل ، والانغماس في مزيد من التحكم بالعقول وتعويم التفاهة أو التافهين ، والهدف الأول والأخير زيادة الأرباح ، هل سمعت بلوحات الإن اف تي هذه التي تباع بملايين الدولارات وأشهرها لوحة بي بيل مصمم الغرافيك والذي قام بجمع خمسة آلاف صورة في صورة واحدة وقرر أن يبيعها في مزاد علني ، عرضت اللوحة ووصل عدد متابعي المزاد إلى اثنين وعشرين مليون شخص ، واستمر المزاد حتى بيعت لوحة “حروب التاج” ب سبعين مليون دولار .

ليس مهم الثمن المشكلة أن مشتري هذه اللوحة لن يعلقها في قصره ويتباهى بها ، وإنما سيحصل على كود سري خاص باللوحة ، أي أنه اشترى شيئا غير ملموس وموجود في العالم الافتراضي فقط كمن يشتري سمك في الماء ، إنه نظام التفاهة.

حكم التفاهة وتعظيم التافهين

أصبح الجميع يعظم الفنان الذي يجلب المال بغض النظر عن الرسالة التي من المفترض أن يحملها ، الله كرم البشر بالعقل وحثهم على التفكر في ملكوت السموات والأرض “أفلا يتفكرون” وردت ثمانية عشر مرة في القرآن الكريم والنبي الأكرم لم يقدم حجة على رسالته إلا وكان هو طريقة العقل والتفكير ، ولم يشأ له ربه أن يحقق للقوم ما كانوا يطلبونه من خوارق حسية تخضع لها أعناقهم . ” بسم الله الرحمن الرحيم إن نشأ منزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ” سورة الشعراء . ليأتي في هذا الزمان أناس امتهنوا تجارة الدين يسيئون للدين باسم الهداية ويؤجر لذلك من تم تسميتهم بعلماء السلطان ، الذين قاموا بتسخير الدين من أجل تسفيه العقول بغية تحقيق مآرب سياسية ، أو ربما إضفاء الشرعية على تصريحات لا تمت للدين بصلة ، لكنهم يغلفها بحبكة قصصية قوية تشفي غليل الجمهور المتعطش للخرافات .

ومن بعض الهلوسات الفقهية التي جاءت على لسان هؤلاء الدعاة في دفاعهم عن الإسلام حسب منظورهم قولهم ونصوم بشهر رمضان من أجل  أن نحس بجوع الفقير ، ألم يلزم الفقراء المسلمين بصيام شهر رمضان أيضا ؟ إذا كانوا قد عرفوا تأثير الجوع فلا حاجة إلى صيامهم إذن ولو كان الصيام فرضا على الأغنياء فقط ، أو أن يأتي أحد فيقول لك بصيغة المعجزة احترق البيت كله إلا المصحف لم يحترق ، سبحان الله . ألم نشاهد حالات احترق فيها المصحف عمدا عن طريق أعداء الإسلام؟ كلنا نعلم أن الله حفظ كتابه من التحريف والزيادة والنقصان فلا داعي لهذا الانحياز الذي أشبه ما يكون بحكاية للأطفال .

التفاهة يشرب من كأسها الجميع

قد تظن أن هذه الظاهرة منتشرة في الدول النامية فقط ، لكن في الحقيقة ، التفاهة تفشت في كل المجتمعات العربية والغربية على حد سواء ، فعندما يصل لحكم أقوى دولة في العالم رئيس مثل ترامب لا يفقه شيئا في السياسة أكثر مما يفقه في المصارعة ، أو عندما نرى طوابير من المهووسين يبيتون على أبواب متاجر شركة آبل قبل يوم على الأقل من إصداره للنسخة الجديدة من هاتف آيفون والذي يصل سعره إلى 1500 دولار ، فاعلم عزيزي أن التفاهة أصبحت تسيطر على العالم بأسره .

 في ألمانيا عقد بإشراف علماء الاجتماع والتربية مؤتمر خصص لمناقشة توافه الأمور حضره آلاف البشر ، نوقشت فيه موضوعات كألوان الأحذية ورائحة الغسيل وطرق تربية الحشرات ، فماذا كانت النتيجة؟ لقد لاقت هذه الأفكار تجاوبا كبيرا واستقطابا دون ملل أو ضجر ، كانت غاية العلماء قياس مدى استجابة الجمهور للموضوعات التافهة عرفوا وتأكدوا إلى أن الكثير من البشر خاضعون بشكل عفوي وتام للتفاهة ، هذا العبث إن دل على شيء فإنه يدل أن اهتمامات سكان العالم الفكرية والثقافية والفنية وحتى الدينية تنحرف نحو التفاهات بطريقة غير مسبوقة ، خدمة لأغراض السوق والاستهلاك وتحت شعارات رنانة أفرغت من معانيها .

 لم أسمع يوما ولم أقرأ في كتب التاريخ عن اختراعات أو اكتشافات حققها الإنسان بالسرعة وعلى عجل ، وإنما تطورت البشرية بالصبر وتحصيل العلم وتراكم المعارف ، أما اليوم وفي عصر السرعة المزعوم نجد أن التركيز على غالب العلوم والفنون يعتمد على السرعة ، فاسحا المجال للتافهين للوصول إلى مبتغاهم من شهرة ومال بأسرع وقت وبدون تعب ، حيث يستطيع أي يوتيوبر أو إنفلونسر لديه ملايين المتابعين أن يحرك جيشا من الناس وراء توافه الأمور تحت شعار هاشتاغ أو تريند مثل ما صار مع ياسين جنكيز بكل شيء وضربة حظ وجمهور متعطش للضحك والتفاهة .

الشركات تحب التافهين

دخل جنكيز عالم الشهرة من أوسع أبوابه وتهافت عليه شركات الإعلانات ، وتحول بين ليلة وضحاها من عامل بسيط إلى ثري من أثرياء التفاهة ، عصر السرعة وعصر التفاهة وجهان لعملة واحدة ، فهذه السرعة والسهولة في الحياة ساهمت في استسهال الناس أمور الحياة ، فلا أحد اليوم يرغب بقراءة كتاب أو رواية ، لكننا مستعدون للبقاء ساعات وساعات نقلب مقاطع على الفايسبوك ، التاريخ يمضي لا صعودا مستمرا ولا هبوطا دائما ، ولكنه يمر بدورات ونحن فيما يظهر نمر في هبوط وتقهقر على عجلة ، حل زمن راقصات تيك توك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى