عبقرية تولستوي المضطربة | عندما تلتقي الفلسفة بالأدب

إن عبقرية تولستوي وكما أقرانه الكبار في مدرسة الأدب الروسي العظيم غاص عميقا في تحليل النفس الإنسانية والطبيعة البشرية، وظهر لنا بطريقة عبقرية مذهلة جل تلك الصراعات النفسية الحادة التي تعتمل وتعتبر داخل الإنسان صراعات نفسية.

 مثل ذلك الصراع الدائر في داخل النفس الإنسانية بين ما هو الإنسان عليه أو ما اعتاد عليه مثلا وبين ما يصبو إليه من جهة أخرى، أو كمثل ذلك الصراع الدائر بين ما في النفس من نوازع ورغبات، وبين ما في الضمير مثلا من مبادئ وقيم أخلاقية سامية، كذلك لا بد من الإشارة في هذه العجالة إلى أن تولستوي هو بالفعل أحد أولئك الكتاب الكبار الذين استطاعوا أن يخرجوا من حدود إطاره القومي مثلا، أو الديني أو المذهبي أو الجغرافي أو المحلي بصفة عامة ليعانق بالمقابل الروح الإنسانية في بعدها العالمي والكوني، والشاهد على ذلك هو أن تولستوي طرح وناقش في جل أعماله كل القضايا وكل الإشكاليات وكل الهموم التي ظلت الإنسانية تقف عند أعتابها حائرة، فبالتالي أتت أعمال تولستوي حبلى بكل أنواع الأسئلة التي تعني أي إنسان إلى أي ثقافة انتمى أو على أي حيز جغرافي على هذه الأرض.

عبقرية تولستوي

 طرح أسئلة كبرى، أسئلة حياتية ووجودية واجتماعية من مثل ما الموت؟ ما هي الحياة؟ كيف هو الخير والشر؟ لماذا الحب والكراهية؟ من نحن مثلا؟ ولماذا نحن هنا؟ وهل هناك غاية لوجودنا؟ وهل هناك خالق أصلا لهذا الوجود وبالتالي أين موضع الإنسان بين جدلية الإيمان والإنكار؟ أيضا أثار أسئلة حول علاقة الفرد بالمجتمع وبالناس، ولماذا يظلم ويقتل الإنسان مثلا أخيه الإنسان؟ وبأي حق مثلا تمتلك فئة قليلة من الناس مصائر الأكثرية الساحقة؟ هل هناك عدل في هذه الدنيا؟ أم أن العدل ربما لا يوجد إلا في عالم أخر؟ أيضا أثار أسئلة كبرى حول الحرب وما هي دوافع الحروب؟ ومن هي القوى التي تقف وراء الحروب والتي تسعر الأحقاد بين إنسان وأخر؟ وبصفة عامة فأغلب أسئلة تولستوي دارت حول مصير الإنسان ومصير الإنسانية والجنس البشري، فكل هذه الأسئلة وغيرها وأمثالها الكثير كما قلت وردت على فكر وذهن وقلم تولستوي.

أبرز الأعمال والمؤلفات التي قدمها تولستوي | ( عبقرية تولستوي )

 فواقع أن أول عمل روائي كتبه تولستوي كان أو كانت رواية بعنوان الطفولة هذه الرواية التي أعاد تولستوي كتابتها لثلاث مرات متتالية، حيث كان قلقا في أول محاولة كتابية أو روائية له، وهذه الرواية الطفولة هي سيرة ذاتية له طعم بطابع أدبي بديع، وكان قد كتبها أثناء خدمته العسكرية في عامه الأول، وبعد أن نشرت ولدت عبقرية أدبية بانت ملامحها من بين طيات ثنايا هذا العمل الأول، بعدها كتب تولستوي وفي نفس السياق والإطار الأدبي روايتي المراهقة والشباب، وبعد أن استعرت الحرب في القرم ورأى تولستوي ويلات هذه الحرب التي عايشها عن قرب، وحول انطباعاته عنها حولها إلى مجموعة قصصية أتت تحت عنوان قصص من سيفاستوبول، وقدم فيها وصف بالغ الدقة وبالغ الوضوح عن المآسي التي تخلفها الحرب.

 وهذه المجموعة أيضا عملت على ترسيخ عبقرية تولستوي في عالم الكتابة والأدب الروسي، إذ أنها أثارت بعد نشرها ضجة كبرى لفتت كل الأنظار إلى هذا الكاتب الشاب بعدها، وفي مرحلة من حياة تولستوي سيقوم بجولة في أوروبا ستقوده إلى فرنسا وسويسرا وإيطاليا وإلى ألمانيا ولندن طبعا ليعود بعدها إلى روسيا ويصدر مباشرة رواية القوزاق، هذه الرواية التي كان قد أنهاها أصلا قبل عشر سنوات لكن لم يقم بنشرها أنذاك، في هذه الرواية نقل تولستوي صورة القوزاق مقارنة بحياة المدن المترفة في روسيا، طبعا من خلال تصويره لحياة بطل الرواية دميتري بعدها كبطل الصور.

رواية الحرب والسلام

 ولمدة خمس سنوات كاملة كان يؤلف فيها الرائعة الخالدة الحرب والسلم، وهي الرواية التي أكسبت تولستوي طبعا الشهرة العالمية لا بل رفعته في زمن قياسي إلى مصاف النخبة والطليعة من كتاب وروائيين ذلك العصر، حيث ترجمت وبعد نشرها بفترة وجيزة إلى الكثير من لغات العالم الحية، في هذه الرواية قدم تولستوي بالفعل عرضا مذهلا للأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية في تلك الفترة، طبعا من خلال مشاهد أشبه بالعواصف العاتية التي تلفح العقل وتلمح الوجدان والقلب والضمير، وأنت تتابع حياة الناس من أثرياء وفقراء، من أبطال وجبناء، من عظماء وبسطاء العطاء وهم ما بين نعيم وشقاء، وما بين أمل ويأس وحب وكره، وكيف تربطهم تارة آلاف الخيوط وتبعدهم تارة أخرى في عملية من المد والجزر في قلب الأحداث الهائلة والضخمة كما قلت إبان الحروب النابليونية.

 طبعا شخصيات هذه الرواية بعضها شخصيات حقيقية كمثل شخصية نابليون بونابارت وشخصية القيصر الروسي، وبعضها طبعا شخصيات متخيلة ولكنك لا تملك كقارئ إلا أن تذوب في أحداث الرواية وأن تعيش فعلا بكل جوارحك مع هؤلاء الشخصيات، تفاصيل حياتهم بكل ما فيها من تقلبات ومنعطفات، أحيانا تكون مذهلة لدرجة مجنونة فتجد نفسك متفاعلا مثلا مع الأمير أندرو مع ماريا وأبيها مع تلك الشابة التي تفيض ذكاء وجمال وسحر نتاشا، وكي لا أنسى في هذه الرواية قدم تولستوي لنقل فلسفته التاريخية المرتكزة على مبدأي الضرورة والحتمية.

 فبعد صدور رواية الحرب والسلم واتساع شهرة تولستوي سيعود إلى مزرعته وسيقوم بافتتاح مدارس مجانية لأبناء الفلاحين وأبناء الطبقات الفقيرة، وسيكتب من أجل هذه الغاية مجموعة من القصص الهادفة والتربوية التي بلغ عددها 800 صفحة موجهة للأطفال حملت عنوان كتاب المطالعة الأدبية.

كتاب أنا كارنينا

 بعدها سيبدأ تولستوي بكتابة رائعته الخالدة الأخرى أنا كارنينا، فإذا كانت الحرب والسلم هي كما ذكرت إلياذة الأدب الروسي فطبعا رواية أنا كارنينا هي من جانب أخر تعتبر ربما أضخم بانوراما للمجتمع الروسي ككل، ولنقل يعني تربعت بالفعل رواية أنا كارنينا مع رواية الحرب والسلم يعني تربعا سويا على قمة الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر، بعد هذه المرحلة دخل تولستوي في أزمة نفسية وروحية عميقة تحدث عن هذه الأزمة بإسهاب في كتاب الاعترافات، هذا الكتاب الذي عرفنا تولستوي على الإنسان الذي عاش في صراع دائم مع النفس ومع الحياة من منطلق القلق الوجودي والأزمة الوجودية التي رافقته في أغلب فترات حياته، فنجده في كتاب الاعترافات يحدثنا وبكل شفافية عن اختلاجات نفسه، عن أرائه الدينية والأخلاقية والروحية العميقة، وعن معنى الحياة مثلا وعن معنى الإنسانية، وعن معنى الوجود بصفة عامة.

عبقرية تولستوي

كما هناك رواية معروفة بعنوان موت إيفان بيليتش، هذه الرواية التي عالج فيها تولستوي طبعا عبر شخصية إيفان موضوع الموت وما يلقيه في النفس من وشائج ومن خوف من هذا القدر المحتوم الذي لا مفر منه، أيضا هناك رواية البعث والتي هي رواية طويلة نسبيا وتعتبر من أواخر الأعمال التي كتبها تولستوي في هذه الرواية، سنجد أن تولستوي سيوجه طبعا من خلال سرده لحياة البطل ديميتري نقدا لاذعا وغير مسبوق لمفهوم العدالة ولجهاز القضاء ككل و للسلطات الدينية والكنسية ولرجال الدين والكهنوت في روسيا القيصرية أنذاك، أيضا له رواية الحاج مراد والتي هي من أعظم أعماله وأروعها على مستوى الإبداع الفني، من جانب أخر فلدى تولستوي أيضا أعمال في مجالات أخرى غير الرواية والقصة كمثل كتاب مملكة الرب الذي عرض فيه جملة من أرائه الفلسفية ولقضايا العنف والثأر والتسامح.

 وفي هذا الكتاب أطلق تولستوي الدعوة إلى المقاومة السلمية أو المقاومة اللاعنفية، وبالتالي نبذ الاحتكام مثلا إلى لغة العنف والسلاح، هذا الكتاب أثر بعد نشره وفي مراحل لاحقة على العديد من الشخصيات العالمية البارزة كمثل المهاتما غاندي إبان نضاله في وجه الاستعمار البريطاني للهند، أيضا تأثر بهذا الكتاب الأديب الفرنسي الكبير رومان رولان، وأيضا الأمريكي المناضل من أجل حقوق السود في أمريكا مارتن لوثر كينغ.

كتاب ما هو الفن؟

في الواقع هذا الكتاب نشره تولستوي وهو في خضم أزمة نفسية وعائلية ضاغطة وحادة، وهذا الأمر أثر على بعض أفكار تولستوي حيث تراجعت بعض انتقاداته في ما خص الفن وبالتالي هاجم فيه بشكل غريب بعض الحركات الأدبية والفنية وانتقد كبار الفنانين ج بيتهوفن ومزار فاغنر ويليام شكسبير وأخرين، كذلك كتب تولستوي كتاب بعنوان ديني أو عقيدتي وفيه يعرض لنا نظرته الخاصة للدين المسيحي واللاهوت المسيحي والعقيدة الأخلاقية التي صاغها وآمن بها تأسيسا على الأخلاق المسيحية، لكن من خارج الإيمان التقليدي أو الطقوس الكنسية التقليدية.

كتاب حكم النبي محمد ( عبقرية تولستوي )

 كتب تولستوي هذا الكتاب للدفاع عن النبي محمد في وجه حملة من التشهير كانت قد طالت النبي أنذاك من بعض الجمعيات التبشيرية، طبعا لا يخفي تولستوي في داخل الكتاب إعجابه الكبير بشخصية النبي محمد، ليس من منطلق ديني أو إيماني أو عقائدي، وإنما بوصف النبي كما رأى تولستوي رجل إصلاح استطاع أن يدخل إصلاحات اجتماعية جذرية ومتقدمة بالنسبة إلى عصره على مجتمع كان مجتمع منغلق وبدائية ومشتت ومفككة إلى قبائل متناحرة، وبالتالي يلقي تولستوي الضوء على شخصية النبي وكيف استطاع أن يصنع من هذا المجتمع أمة موحدة تحت راية واحدة ومن أجل هدف واحد، ويقول أن رجلا بهذه الصفات وهذه الإنجازاته لهو جدير بإجلال والاحترام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى