ملخص شامل في أفكار ابن خلدون

معضلة المدينة والبادية

ابن خلدون كان نتاج زمانه والمشكلة الفكرية في عصره كانت محور أفكاره وضعف الإسلام في وقته ، كان التحدي الفكري لابن خلدون مع الهزيمة تضعف العقيدة وتبدأ الأسئلة ، أين وجه العدل في هذا؟ ربما حتى في يومنا هناك الكثير من الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات التي تقضي على الآلاف من الأبرياء وغير الأبرياء كل مرة ، لا نتكلم عن المصائب التي يصنعها البشر ، ابن خلدون كان يسأل كيف نفهم وعد الله بنصره لعباده المؤمنين بينما الحياة قاسية وغير منصفة ، درس ابن خلدون الناحية الاجتماعية لتاريخ البشر ، لكنه في نفس الوقت حاول التوفيق بينه وبين العقيدة ، وحاول تفسير أن ما نلاحظه في الواقع لا يمكن أن يتعارض مع كلام الله والقرآن . نظريته كانت تتمحور حول موازين القوى في الأساس ، لكن يصاحب هذا التدخل لناحية بداية كل حضارة تبدأ من البادية ربما يكون هذا الكلام غير منطقيا في البداية لكون التحضر يقتصر على المدن ف أفكار ابن خلدون كانت جد دقيقة في زمانه .

والإسلام أساسا ظهر في المدن في البداية في مكة ولاحقا أسست الدولة في المدينة المنورة ، لم يكن للبدو دور كبير في تاريخ الإسلام لكن ابن خلدون لاحظ من التاريخ أن البدو الرحل والذين يستقرون في المدن يعطون حياة جديدة للمدن التي بدأت تظهر فيها علامات الانحطاط الأخلاقي ، حيث الترف والرفاهية تفسد أخلاق أهل المدن ، التناقض الذي يراه ابن خلدون في كون المدن متطورة وهي مراكز العلم والثقافة بالرغم من كونها متميزة وتعيش حياة الانحطاط . لكن كيف؟

القبيلة تمثل القوة | أفكار ابن خلدون

كل قبيلة من البدو تحاول أن تقلل من جهود أفرادها في الحصول على الموارد ومحاولة فرض السلطة في مناطقها ، وهؤلاء البدو يتمتعون بقوة يفتقر إليها أهل المدينة ما هي هذه القوة؟ أسماها ابن خلدون العصبية وهي مثل اللاصق الذي يلصق الأفراد ببعضهم ويجعل القبيلة مستقلة إلى حد كبير وتعتمد على نفسها ، هذه العصبية هي التي تجعل أفراد القبيلة يتكاتفوا ويضحون بأنفسهم من أجل قبيلة ، العصبية مهمة في البدو لأن الفرد بحاجة إلى أن يحتمي بالجماعة .

 أهل المدينة يفتقرون إلى هذا النمط ، حياة الصحراء نفسها تعطي الإنسان مستوى من الفضيلة لكونه بعيد عن المغريات التي تفسد الروح والتي تتواجد في المدن ، والبدو يعيشون الإنسانية بمعانيها حيث البساطة وأواصر العلاقات القوية ومساعدة الآخرين ، الألفة أو الأواصر العصبية هي التي تشكل في الإنسان الأخلاق الغير مكتوبة مثل الشرف والواجب ، يبدو أن الحياة غير منصفة فهي تعطيك إحداهما إما الثقافة والعلم أو الإنسانية ، فالإنسان المدني يحتاج إلى حكومة أو سلطة لكي تحميه ، وهو ما يجعله تابعا أكثر لكن البدوي هو شرطي نفسه على عاتقه حماية أسرته وتوفير الطعام لهم ، وبذلك يميل البدوي إلى تطبيق التعاليم الدينية حرفيا ، فبدل الحكومة الدين له دور أكبر في تنظيم حياة البداوة في البدوي لكونه مستقلا أكثر يدين نفسه عن طريق الدين بدلا من جهة تحاسبه .

أهمية الدين في حياة البدو

 لا توجد جهة قمعية تعمل باسم الدين ، العصبية هي الأقوى في حياة البداوة لكنها نفسها التي تخلق شخصية الأمة متى ما ضعفت هذه العصبية انهارت الأمة لذلك في البادية ، الدين يساعد في تقوية العصبية أكثر، وكذلك الدين يساعد أحيانا القبيلة القوية في ضم القبائل الأصغر تحت مسمى الدين ، وهذه هي اللبنة الأساس لتكون السلالة أي العائلة مالكة قوية لكن متى ما حظيت إحدى العوائل بهذا الامتياز فإنها في نفس الوقت تسيطر على ثروات طائلة تغير من مبادئها ، ومع تعاقب الأجيال تتحول السلالة من صاحبة قضية إلى الانغماس في البذخ والإسراف وتسخير رعاياها أو السلطة فقط لتلبية هذه الرغبات ، وهذا هو الذي يضعف الدولة بحيث لا يبقى للرعية دافع لتقديم الولاء للحاكم ، حتى أن الامتياز الديني الذي من خلاله تمكنت السلالة من التفرد بالسلطة يصبح عبئا على البقية . الأغلبية ستغادر إلى أماكن أخرى فقط للتخلص من الضرائب وممارسات القمع التي تقوم بها العائلة المالكة.

متى تسقط العائلة الحاكمة

حدد ابن خلدون لكل عائلة أربعة أجيال في البداية تتمثل بالنبل إلى الانحطاط في الجيل الرابع ، أي تقريبا مئة وخمسين إلى مئتي سنة ، هنا تصبح الدولة الأرض الخصبة لعائلة بدوية جديدة لتطيح بالعائلة القديمة وتتسلم زمام الحكم ، في لقائهم مع تيمورلنك على مداخل دمشق قال له إنك الدليل الحي على صدق نظريته أن العصبية القبلية أقوى عامل يمكن للتجمع البشري أن يحصل عليه بشكل عام .

الظلم والطغيان لا يستمران | أفكار ابن خلدون

الشعب له دور بشكل غير مباشر في تقرير من يبقى ومن يرحل ، وسأشرح هذا بعد قليل بالنسبة لابن خلدون هذا النموذج من التاريخ يعيد نفسه دائما وأبدا ، قبيلة بدوية تصعد للحكم ، هذه القبيلة ستفسد بسبب رفاهية التمدن بعد أجيال ، الجميع ينسون حياة الفضيلة الصعبة للبادية وبعدها تأتي قبيلة جديدة تطيح بسابقتها والعجلة تدور من جديد ، لكن ما علاقة هذه دورة السلالات بالإسلام بشريعة الله؟ هل التغيير بيد المجتمع أم بيد الله؟ كيف استطاع ابن خلدون من دراسة المجتمع وفهم طريقة الله في تسيير التاريخ؟ .

 ابن خلدون يعتبر أن دورة حياة الملوك والسلالات هي جزء من سنة الله ، وهو ما أختلف مع المفكرين الآخرين فهو كان يرى تدخلا إلهيا في التاريخ وبذلك التاريخ والدين لا يختلفان ، يبين لنا ابن خلدون أن المتدين وغير المتدين يتفقان في طريقة دراسة التاريخ ، لكن الاختلاف هو في فهم المعاني التي نستخلصها ، فالله والأخلاق لا يتعارضان مع أحداث التاريخ الأمر يعود للمؤرخ كيف أول الأسباب؟ ابن خلدون من الذين شددوا كثيرا على الجانب الأخلاقي ، يفسر ابن خلدون أن الله تعالى ينشر رسالته بالقوانين الطبيعية للبشر فسر نجاح رسالة الإسلامي حسب رأيه أنها بدأت في عصبية قبلية ، ومن ثم تأسست الدولة عليها نشر العقيدة يجب أن يكون واقعيا ومعتمدا كثيرا على الطبيعة الاجتماعية لتلك الملة.

قوة العصبية والدين

القوة التي جاءت من الإسلام هو أمر لم يشهده العرب مثله ، لكن التدخل الإلهي هنا ليس بالضرورة نزول الملائكة أو كوارث التي ستحل بالكفار ، فوحدة الفكرة والعصبية هي التي تحولت من قبلية إلى دينية،  لكن بعد انتهاء النبوة بدأت بوادر العصبية القبلية تعود من جديد ، صحيح أن الخلفاء الراشدون استمروا على حياة الفضيلة ، لذلك كانت أفكارهم نقية وحكمهم كان عادلا .

 لكن للتاريخ والطبيعة عدالة يفرضان نفسهم فالخلافة الأموية والعباسية حتى أن التسمية تأتي من نسب العائلة ، أي أنها عصبية قبلية ولا يخفى على أحد أن الخلفاء اللاحقون لم يرتقوا إلى مستوى الخلفاء الراشدين ، فالمال والثروة لعبت دورا كبيرا في إضعاف الدولة الإسلامية كان أمرا حتميا أن تأتي قوة جديدة ذات عصبية قوية تستولي على سدة الحكم ، الأمر لا يقتصر على العرب فبلاد فارس شهدت تعاقب السلالات بنفس الطريقة وفي الصين كذلك نفس الحالة حتى مع بني إسرائيل حيث بدأت الصراعات الداخلية وانقسمت الدولة بعد وفاة أمير الله سليمان هذه هي طبيعة البشر حسب ابن خلدون والإسلام ليست استثناء.

طريقة عرض التاريخ حسب | أفكار ابن خلدون

يجب أن ندرك أن طريقة ابن خلدون هذه في دراسة التاريخ كانت فريدة من نوعها ، فلم يبحث الذين سبقوه بهذا الأسلوب ، فالسابقون كانوا يدرسون التاريخ إما من ناحية نصوص القرآن وما يمكن تطبيقها على أرض الواقع أو من ناحية الملوك وانجازاتهم ، فلم يعر أحدا الاهتمام إلى الجانب الاجتماعي ، يمكن الجزم أن ابن خلدون كان يريد حلا وسطا بين الفكرتين ، لأن هناك عيوبا في كلتيهما بالنسبة له بعث الأنبياء يصلح مرحلة معينة بتفكير الشعوب بفضائل الأخلاق ، لكن الصراعات البشرية لم تتوقف و رسالات الأنبياء لها دور ، لكنها لا تفسر كل شيء في مجريات التاريخ فقد أشار ابن خلدون أن هناك ممالك أو إمبراطوريات ازدهرت حتى بدون أنبياء ، وأن الشريعة هي والدين ليس المعيار الوحيد لنهوض الأمم أو سقوط أخرى ، ولا في نفس الوقت سطوة الحكام ومقدار ظلمهم أو فتوحاته.

 من الممكن تشبيه المجتمع على أنه كائن حي ينظف نفسه بين فترة وأخرى من الحاكم الظالم بعدم نصرته عندما يكون في أمس الحاجة إلى شعبه ، ففي النهاية قوة الحاكم تأتي من رعاياه فهم الذين يزودونه بالمال والجيش ، بالنسبة لابن خلدون دورة السلالات هذه هي الطريقة الإلهية في تفكير البشر بالأخلاق ، ربما سوء الفهم للمؤرخين السابقين يأتي من سوء تأويل النصوص القرآنية ، فسقوط الأمم كان دائما يفهم على أنه يأتي بالتدخل الإلهي الخارجي ، فربما ممالك مثل قوم نوح وعاد وثمود حالات خاصة فسادها الأخلاقي لم يعطي مجالا للإصلاح بالطريقة الاعتيادية ، لذلك لا تنطبق هذه الآيات على باقي المجتمعات هذا مجرد رأيه.

الدورة الطبيعية للأمم

لم يعر أحد الاهتمام إلى دورة الحياة الطبيعية للأمم ، ففي سورة فاطر الآية ست والأربعون “فلن تجد لسنة الله تبديلا” هذه الآية كانت محور التفكير ابن خلدون كيف تعمل سنة الله ؟ هل انطبقت سنة الله على المسلمين في عهده ؟ الله يبعث الأنبياء على القوم إذا رفضوا التعاليم الدينية الله يخليهم وتبقى آثار القوم لتكون عبرة للأقوام اللاحقة  ، هذا النموذج الذي تكرر أكثر من مرة في القرآن أراد ابن خلدون تفسيره من ناحية اجتماعية وسرد التاريخ من مجراه الطبيعي ، ما فعله لم يتمكن أحد قبله بتفسيره لذلك علينا أن نسأل ليس فقط أن نقرأ كيف تعمل سنة الله في الزمن الحديث ، كيف نستطيع أن نفهم طريقته في يومنا هذا؟ .  

حاول ابن خلدون إيجاد ربط بين التدخل الإذاعي والسياسة وموازين القوى والاجتماع والأخلاق ما استخلصه في النهاية من ملاحظة التاريخ أن سنة الله ليست بالضرورة لها تدخله الخارجي ، بل القانون الذي يسير المجتمعات وطبيعة البشر هي أيضا إحدى طرق الله ، القوة تكمن في البادية والبادية هي التي تعيد تفكير المدينة بالأخلاق وتجديدها بين فترة وأخرى ، لكن المدينة هي مركز الثقافة والعلم والحضارة بشكل عام يعتمد على الموازنة بين البادية والمدينة ، يختل هذا التوازن عندما تأتي قوة أجنبية تقوم بتبديل ديمغرافية لتلك المنطقة.

سر نجاح الأمم | أفكار ابن خلدون

 سر نجاح أمة على حساب أخرى هي أنها تحمل معايير أخلاقية ، بينما البقية تسقط في فخ الفساد ما كان يريده ابن خلدون الإشارة إليه أن العالم قد يكون غير مثاليا وغير مستقر ، لكنه يعكس رسالة القرآن وبالتحديد تجدد الأخلاق والقضاء على الفساد في النهاية حتى لو لم تكن واضحة لنا سنة الله دائما موجودة ، إلا أنها تعمل بطريقة يصعب علينا فهمها ، لكن النتيجة واضحة الأخلاق تتجدد كل بضعة أجيال ، ربما إذا تمعنت قليلا فيما قيل في هذه المقالة ستجد الكثير من التناقضات ، لكن لماذا؟ .

 لأن ابن خلدون حاول أن يضع نموذجا واحدا يصف فيه كل البشرية ، وهذا في رأي الكثيرين خطأ كبير وفكرة غير عملية ، فعلم الاجتماع ليس مثل العلوم التطبيقية كالرياضيات لا تستطيع أن تضع قانونا يصفه كل البشر ، توجه ابن خلدون إلى تنسيب الفضيلة إلى البدو ، بينما المفكرون ومنذ أيام الإغريق كانوا دائما ينتقدونه مثلما ذكر عنهم أرسطو إن البدو يستهلكون دون بذل جهد كبير ، لذلك وصفهم بأنهم قوم كسالى يمتهنون العصيدة والسرقة ، بينما الحضر يعملون بشكل متصل بما يكفل لهم الحياة ، كما أنهم يستثمرون المصادر الطبيعية ويصفونها بما يلائم حاجاتهم ، إذن كيف نستطيع أن نفسر تغيير التاريخ كله بداية من حياة البداوة ؟ وأيهما أصح أرسطو أم ابن خلدون؟ .

الانتقادات التي يمكن توجيهها لعمله

 يبدو أن هذا النموذج غير محكم والبعض يتهمونه بالسذاجة ، ومنذ زمنه وصولا إلى يومنا هذا لم تتحقق نظريته بالشكل الذي تصوره هو ، بل بالعكس تأييد هذه الفكرة في الوقت الحالي أمر خطير ومعناه التبرير للتشدد الديني ، والذي كما نعلم هو آخر شيء يمكن أن تعطى له الشرعية ، والقضية شائكة ومعقدة من وجهة نظر المتدينين لا يمكن لنا أن نعتمد على التاريخ الذي كتبه البشر ، فهو خاطئ في معظمه لأن التاريخ كما نعلم يكتبه المنتصرون ، هنالك تفاصيل لكل حادثة وهنالك خصوصية لكل أمة يجب أن تذكر هذا الأمر ، وهذه بالتأكيد معلومات ضائعة من المستحيل الاطلاع عليها .

 طه حسين عمل على دراسة وبحث أخطاء كتاب المقدمة في رسالته للماجستير فيقول أن طريقة سرد التاريخ في الكتاب لم تكن خطية تتبع السنوات ، بل قسم التاريخ إلى فصول وكل فصل يتحدث عن أسرة أو دولة معينة ، لذلك من الصعب على المتلقي فهم التداخلات والصراعات التي تحصل ، وهناك العديد من الأخطاء التاريخية بسبب هذا الأسلوب ، وكذلك اتهم طه حسين ابن خلدون في عدم تمكنه من معرفة تاريخ الشرق ، ويقول أنه كان عليه أن يقتصر في مناقشة تاريخ المغرب الكبير الذي عاش فيه .

 وفي الأخير ذكر طه حسين أن ابن خلدون أهمل القوانين الثلاثة التي يجب أن يلتزم بها المؤرخ ، وهذه القوانين هي قانون العلية وهو ربط سببي المسبب ، المؤرخ ليس من واجبه أن يفسر كل حادثة بل سردها والبحث في تفاصيلها ، أما المسببات فهي عمل رجال الدين أو الفلاسفة ، لكن ابن خلدون كما قلت قبل قليل حاول إيجاد الربط بين التدخل الإلهي والسياسة وموازين القوى والاجتماع والأخلاق ، ولا يمكن للعقل البشري أن يبدع في جميع هذه المجالات.

انتقادات أخرى التي تعرضت لها أفكار ابن خلدون

 القانون الثاني التشابه وهو مجال عقلي كان ابن خلدون يميل كثيرا إلى تشبيه الأقوام ببعضهم بحجة أن الأصل واحد ، القانون الثالث التباين وهو مجال تجريبي أن الزمن لا يسير على وتيرة واحدة وهذا على عكس ما زعمه ابن خلدون وخصوصية كل مجتمع ، هذا كله دفع ابن خلدون للوقوع في مغالطات كثيرة ، لكن لنكن منصفين ولا نعطيها العذر فهو بشر ويمكن أن يقع في الخطأ ، فبحث التاريخ بالمنهج العلمي الحديث الذي نعرفه اليوم كان أمرا غائبا عن المفكرين في زمن ه، لذلك نحن نميل الى انتقاد أفكاره أكثر من تأييدها بالرغم من اعتبار اعماله تحفة في زمنه ، فهو مهما كان عبقريا لا يستطيع ان يخرج من اطار فكر القرن الرابع عشر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى