فكر وفلسفة أبو نصر الفارابي
ما يميز الفارابي عن باقي المفكرين هو اهتمامه بالفلسفة السياسية ، وكان هذا أمرا غير مألوفا في عصره وبالخصوص في المجتمعات الدينية ، وما حاول الفارابي القيام به كان أمرا فيه الكثير من الجرأة ، إحدى أهم المصطلحات التي أكثر الفارابي استخدامها هي مصطلح السعادة على كون الناس لا تفهم الكلمة بمعناها الحرفي ، فهي تشتمل لدى الفارابي معاني أوسع فهذه الكلمة مترجمة من الإغريقية والتي تعني حرفيا الازدهار أو الرخاء أول من استخدم هذا المفهوم وكان المعلم أرسطو ، وبالنسبة للفارابي فإن السعادة هي الغاية الأسمى للمجتمع ، ففي نظره إن غاية الإنسان الأساسية في الحياة هي تطوير الذات بالتعلم والتفكر للوصول إلى المدينة الفاضلة ، ولأجل تحقيق ذلك فمن الضروري إنشاء نظام سياسي واجتماعي غايته تسهيل وصول الإنسان إلى هذه السعادة ، وتبنى لفكرة المدينة الفاضلة حيث يعتقد الفارابي إنها الوسيلة الأفضل لتحقيق السعادة للأفراد.
والمدينة الفاضلة كما هو معلوم هي فكرة مشتقة من أفلاطون من كتابه الجمهورية وآراء الفارابي مقاربة لسابقه ، إذن كل شيء من نظم سياسية إلى الدين والأخلاق وإلى علم الاجتماع كلها تصبو عنده في سبيل تحقيق السعادة والاستزادة منها.
الفارابي والمنطق
بالرغم من أن الفارابي كان يسير على خطى أرسطو المنطقية ، إلا أنه أضاف بعض العناصر غير الأرسطية في أعماله ، وناقش أشكال الاستدلال غير الأرسطية وموضوعات الوحدات المستقبلية والعلاقة بين المنطق وقواعده ، كما وينسب إليه تصنيف المنطق إلى مجموعتين هما الفكر والإثبات .
بدأ الفارابي رحلته العلمية في مدينة أدرار حيث استفاد من مكتبتها الضخمة التي جمع من خلالها جل معرفته الفلسفية والعلمية ، وذلك من خلال اطلاعه على مؤلفات الفلسفة الرومانية لأرسطو وأفلاطون وغيرهم من الفلاسفة القدماء ، حتى كون مدرسته الفكرية الخاصة التي تعرف باسم القرابية ، كما أطلق عليه لقب المعلم الثاني بعد أرسطو نتيجة لإسهاماته في المنطق والفلسفة وعلم النفس والموسيقى.
الصراعات الفكرية
إحدى أهم الصراعات الفكرية التي خاضها الفارابي كانت محاولته المصالحة بين الفلسفة اليونانية والفكر الإسلامي لكي يخرج بفلسفة إسلامية تشرح حقيقة الكون والخلق ، وكان محط اهتمامه نظرية الفيض لأفلاطون وهو فيلسوف يوناني عاش في القرن السادس بعد الميلاد ، والذي يعتبر آخر الفلاسفة اليونانيين ومؤسس المدرسة الأفلاطونية الجديدة ، وأحد أهم الدعاة إلى نظرية الفيض وهذه النظرية باختصار وفي صورتها اليونانية تدعي وجود ثلاثة ( العقل – النفس – الكلية ) .
وقد أوضح أفلاطون وجود عشر مستويات في هذا المجال هذه النظرية محورها الفارابي لتكون بصبغة إسلامية ، فزعم أن الواحد الأحد هو الله وهو يفيض بكماله ذاتيا ليخرج العقل الذي يتأمل فيه ، وهذا العقل بدوره يفيض ليخرج عنه العقل الثالث والذي يتمثل في السماوات ، وهذا العقل الثالث يتأمل في عظمة الله الوجود الأول ليفهم هو الآخر ، وفي المحصلة نجد العقل الرابع والذي يتمثل في النجوم والعقل الخامس وهو كوكب زحل وهكذا تستمر السلسلة ، كل عقل يفيض بشيء أدنى مثل حين الوصول إلى المرتبة العاشرة مثلا من نظرية أفلاطون ، والتي نجد فيها القمر مستوى العقل الفعال ومنه تخرج كل الأشياء المادية وأرقى أشكال هذه المادة هي الإنسان ، لا شك أن هناك الكثير من التعارض لنظرية الفيض هذه مع حقائق جوهرية للإسلام منها عدم أهمية الخالق وعدم وجود إرادة له في هذا الخلق وكونه نتاج ذاتي فاضل لم يرد الله إيجاده.
الفكر السياسي
من دراسته المستفيضة لجسم الإنسان زعم أن نظام الدولة يجب أن يكون مطابقا في تركيبته لجسم الإنسان حيث القلب هو مركز كل شيء ويليه العقل وهكذا بالنسبة لبقية الأعضاء ، كان الفارابي يعتقد أن يكون مركز الدولة في يد حاكم واحد تكون له السلطة المطلقة ، لكن يجب أن يكون قد وصل إلى الكمال الفعلي يجب أن يكون عالما وفيلسوفا ليس فقط أن يدير الدولة ، بل عليه أيضا أن يشارك البقية علومه وأن يعلم الناس دور الحاكم كما يجب أن يوزع المهام ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، كل هذه عوامل تمهد الطريق إلى المدينة الفاضلة ، وكما قلت تحقيق المدينة الفاضلة هو السبيل إلى تحقيق السعادة.
بالطبع لم تصل إلى مرتبة الفضيلة أية دولة أو مجتمع وعلل الفارابي ذلك على ضعف مستوى المجتمعات ، لذلك تصنف مستويات المجتمعات حسب مستواها العقلي والروحي إلى مجتمع جاهل أي الذي لا يعرف معنى السعادة أو يدعمونها ، ومن يسعى إلى سعادة دونية يسمى بمجتمع لا أخلاقي وهو المجتمع الذي يعرف السعادة لكنه اختار السعي وراء المجتمع المخطئ ، وهو المجتمع الذي أساء فهم الحقيقة أو معنى السعادة كان هذا الكلام عن المستوى الروحي للمجتمعات ، أما بالنسبة للمدن التي درس عنها فقد صنف المدن إلى ستة أصناف المدينة الضرورية التي يتعاون أهلها من أجل نيل الضروري من الحياة فقط ، مدينة الخسة التي يتعاون أهلها على قصد اللذة والتمتع به المأكل والمشرب واللعب ، وغرض هذه المدينة يمكن بلوغه بعد تحصيل الضروري ، مدينة الكرامة يعمل أهلها من أجل أن يكرموا بالقول والفعل إما من بعضه أو من أهل المدن الأخرى.
مدينة البذاءة يتعاون أهلها على نيل الثروة وجمعها فوق مقدار الحاجة إليها ، مدينة التغلب يتعاون أهلها من أجل أن يكونوا قادرين كغيرهم غير مقهورين ، المدينة الجماعية أو الحرة يقصد أن أهلها أن يكونوا أحرارا كل ما فيها يتبعها وهي شبيهة بالفوضوية .
صفات الحاكم الجيد
على الرغم من الإطالة في وصفه للمجتمع الفاضل إلا أنه كان في نفس الوقت يدرك جيدا شبه استحالة تحقيق هذه الأمنية ، فبالنسبة لرأس الدولة الحاكم أو الأمير، فقد أشار إلى ضرورة وجود اثنا عشر ميزة في أي شخص لكي يكون مؤهلا لمنصب الحاكم ، وأدرج لكم صفات الحاكم الفطرية والمكتسبة حسب الفارابي ليكون حاكما عادل .
المستوى الأول هو القدرة العقلية في كسب العلم وهي عن طريق البحث والتفكر ووضع الفلاسفة في قمة هذا الترتيب ، المستوى الثاني المعرفة المتأتية من المخيلة ووضع الأنبياء في هذه المرتبة لأن الوحي حسب زعمه نتاج العقل المتخيل بحيث تكون له وسيلة اتصال مع الأبعاد الأخرى ولم ينفي شرعية النبوة ، لكن كلامه هذا يثير الكثير من الجدل والمغالطات.
المستوى الثالث المعرفة المتأتية من الأحاسيس وهي المرتبة الأدنى وتشتمل العلوم الطبيعية ، كما ذكرت فإن المحاولة للمصالحة بين الفكر اليوناني القديم ومحاولة مزجه بالفكر الإسلامي كان عملا جبارا بحد ذاته ، وعلى الرغم من عدم توصله إلى نتيجة مرضية من محاولاته إلا أن كتبه وفلسفته نقلت لاحقا إلى أوروبا ، حيث كانت إحدى الأعمدة المهمة في قيام عصر النهضة . كان الفرابي يؤكد دائما على تنصيب المناصب المهمة في الدولة لرجل متعلم وبذلك استلهم من أفلاطون فكرة الملك الفيلسوف والذي سيكون الأفضل في قيادة المجتمعات.
كتابات الفارابي
ترك الفارابي تراثا علميا ضخما للبشرية متمثلا في قرابة مئتي رسالة في فروع متنوعة من المعرفة ، وقد علق على العديد من مؤلفات أرسطو مثل التأويلات والموضوعات والتحليلات بجزئه الأول والثاني ، والتفنيد السفسطائي والأردنيون بالإضافة الى أعمال أخرى لمفكرين وفلاسفة قدامى ، ومن أشهر أعمال الفارابي افكار مواطن المدينة الفاضلة والرسائل الفلسفية والكتاب الكبير في الموسيقى ، وترجمت أعماله إلى اللاتينية والعبرية في العصور الوسطى في أوروبا ، وتحديدا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ميلاديا ، ونشرت ترجمة الجزء الأول من الكتاب الكبير في الموسيقى إلى الفرنسية من قبل العالم الفرنسي آير لانغ في سنة 1930 الذي يعد أهم كتاب موسيقي من العصور الوسطى في الأراضي الإسلامية ، والذي كان أيضا يتضمن أقساما فلسفية متطورة.
وبذلك تكون مؤلفات الفارابي قد لعبت دورا هاما في ربط الثقافات والفلسفات الشرقية والغربية معا في عصر النهضة الأوروبية ، ليستحق على إثر ذلك أن يخلد اسمه في تاريخ العلوم والثقافة العالمية ، ويرى الفارابي أن الفيلسوف يجب أن يحكم الدولة بصفته أكمل نوع من البشر ، وأن المرجع الأساسي للاضطرابات السياسية هو فصل الفيلسوف عن الحكومة ، لذلك كان الجزء الأكبر من كتاباته موجها إلى مشكلة التنظيم الصحيح للدولة ، بينما كان نظام الفارابي في باقي مؤلفاته في فروع أخرى ، كما كتب أطروحة قصيرة بعنوان في الفراغ بعد أن أجرى التجارب المتعلقة في ذلك ، وكانت استنتاجاته فيها أن حجم الهواء يمكن أن يتمدد لملء الفراغ المتاح.