كيف قادت الثورة الفرنسية العالم إلى التطرف؟ | الرعب والفضيلة

عرفت أوربا خلال العصر الوسيط حالة جمود اجتماعية وضعف اقتصادي، اثر النظام الإقطاعي الذي كان تحكمه الأرض باعتبارها المورد الاقتصادي الأساسي، وعلى هذا المنوال عاشت فرنسا سيطرة مطلقة للملكية، وهيمت الإقطاعيين “النبلاء” على الحياة الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية، كما عملت الكنيسة على استباب وترسيخ هذا النظام بنكهة روحانية تجعل الفرد خاضعا للذل منتظرا الجنة بعد الموت، بمقابل حياة البذح التي كان يعيشها رجال الدين، ولا ننسى أن الكنيسة كانت تسيطر على مساحات شاسع وخصبة من ربوع المملكة الفرنسية، وكانت تستفيد من العشور وصكوك الغفران، وقد كانت فرنسا قبل الثورة تعيش حالة من انعدام العدل الاجتماعي، حيث أن أغلب موارد الدولة من الضرائب تأتي من جيوب الفقراء والفلاحيين والطبقة الوسطى “البرجوازية”، في حين أن الطبقات العليا من المجتمع “الأسرة المالكة، النبلاء، الكنيسة” فقد حظيت بنوع من الامتيازات الاجتماعية والاعفاءات الضريبية. ” الثورة الفرنسية”
كما شهدت فرنسا في هذه الفترة خروج النبلاء من إقطاعاتهم التي كانت ريفية للعيش في المدن خاصة باريس، التي كانت تجذب الناظرين وحلم الأرستقراطيين، الأمر الذي جعل جمع الضرائب والإجار من الفلاحيين يعتبر سرقة لأموال هؤلاء المستضعفون (كان ملاك الأراضي أو الاقطاعيين لا يعملون في العصور الوسطى، وانما يستفيدون فقط من إيجارات الفلاحين الذين يستأجرون قطع أرضية من الأراضي الشاسعة للإقطاعية التي يملكها النبيل، كما يستفيد النبلاء من جمع الضرائب على الحرفيين والتجار الذين يعيشون داخل اقطاعاتهم)، فالإضافة إلى ذلك كان رجال الدين قد خرجوا عن منطق الزهد والتعبد إلى حياة الترف.
الثورة الفرنسية
كما عرف العصر الحديث صعود الطبقة الوسطى “التجار، الصناعيين …” التي كانت متعلمة إلى ظهور تيار اجتماعي ناقم عن الأوضاع السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى ذلك صعد لويس 16 الذي كان شابا لا يفقه في السياسة شيئا، ولا ننسى أن فرنسا كانت تشهد انفجارا ديموغرافيا مما خلق عدة مشاكل اقتصادية على رأسها وجود عجز كبير في خزينة الدولة، ورافق ذلك الجفاف الذي جعل الطبقات الفقيرة تعاني من الجوع والعوز والمرض، وكذلك افراغ خزينة الدولة من المال اثر مشاركة البلاد في حروب طاحنة دامت لقرون في العالم الجديد ومساعدة أمريكا في حرب الاستقلال، كل هذه العوامل كانت تقود فرنسا إلى ثورة محتمة، لكن لم يكن يدور في بال أحد أن الثورة تؤول إلى موصلت إليه.
الشعلة الأولى للثورة
بعد ما ضاق ذرع الفرنسيين من الأحوال الاجتماعية والاقتصادية السائدة حين ذاك خرج جموع الجماهير في 14 من يوليوز سنة 1789م بالمطالبة بالعدالة الجبائية وبالمساواة، ولعل هذا الخروج اعتبرته الطبقة الحاكمة تمردا عن سلطتها، لكن الجماهير لم تهب بل لم يعد لديها ما تخسره، فقد توجهت الجموع إلى سجن الباستيل الذي كان رمزا للاستبداد والحكم المطلق، لتقتحمه بعد مقاومة شرسة من حراس السجن وقوة الدعم، وعلى اثر المواجهات سقطت الضحايا وتحول الأمر إلى مجزرة، لكن الجماهير كانت الغالبة وتم السيطرة على السجن واخراج المعتقلين، وقد كانت هذه الخطوة مرعبة لنظام الحكم، بل اعتبرها أصحاب القرار تمردا عن سلطتهم عوض رؤيتها أنها غضب عن حال الشعب، فبعد ما كان الغرض من الثورة هو المطالبة بقطعة خبز تشفي حاجة المحتاج، توسعت رقعة المطالب بعد ما دخل على الخط فئة واسعة من المثقفين الذي أرادوا أكثر من الخبز.
واثر تعنت نظام الحكم الذي كان على رأسه لويس 16 على تحقيق المطالب مخافت أن يعتبر ذلك ضعفا منه، بالإضافة إلى الضغوط التي كان يمارسها عليه رجال الكنيسة والنبلاء الذين كانوا المستفيدين من حالة المجتمع تلك، ظل لويس متفرجا بل مساهما في غضب الجماهير وتوسع مطالبها، وبعد ضغط من الشعب اضطر نظام الحكم إلى رضوخ إلى أصعب المطالب ألا وهي مشاركة الشعب في مجلس الطبقات الذي كان شبيها للبرلمان، لكن المشكل كان يكمن كون هذا الأخير كان أعضاءه ممثلين لكل طبقة بالتساوي، أي أن طبقة النبلاء مساوية لطبقة الشعب مساوية لطبقة رجال الدين، هذا الأمر جعل النبلاء يتحالفون مع رجال الدين على حساب الطبقة الثالثة التي كانت تمثل الشعب، هذا جعل مطالب الشعب لا تتحقق، مما خلق نوعا من الاحتقان وتوسع المطالب المتمثلة في البداية في اصلاح اقتصادي يستهدف الجبيات وتحسين ظروف العيش إلى أن وصلت مطالب إلى إلى إصلاح سياسية بل إلى تغيير الدستور.
تكوين الجمعية الوطنية وبداية تقهقر النظام
عزمت الجماهير إلى تغير الأوضاع بعد شهور من الثقة في نظام الحكم الذي خذل طموح الشعب، مما جعل الجموع تخلق مؤسسة جديدة أسموها الجمعية الوطنية في 17 من يونيو سنة 1789م، وهذه الجمعية الوطنية قررت كتابة دستور جديد للبلاد يغير من رؤية الطبقات المهيمنة على السلطة، لكن لويس 16 قرر استعمال القوة عبر استدعاء قوة عسكرية بالقرب من قصر فرساي، هذا ما جعل الجماهير تثور عن الوضع وتقرر اقتحام سجن الباستيل، وبعد هذا الانتصار أصبح الملك خاضعا للجمعية الوطنية بل أكثر من ذلك فقد أصبح أسيرا في يدها، مما جعل العائلة الملكية تحاول الفرار في أكتوبر من نفس السنة لكن تم اكتشاف الأمر، وأصبح الملك تحت أنظار الجمعية، وبعد مظاهرة قامت بها نساء وأطفال في باريس تطالب ببعض الحقوق الاجتماعية، تم نقل الأسرة المالكة إلى قصر باريس ليكون تحت أنظار الجمعية.
وبعد السقوط المدوي لرؤوس النظام، أصبح النبلاء وعائلة الملك في فرنسا يهربون للخارج محاولين قلب النظام من هناك، هذا جعل الجمعية الوطنية تطلق يدها على الشعب وتعتبر أي شخص لا يسير وفق منطقها خائنا لإرادة الشعب، بل عميلا لذا الأعداء، وعلى اثر هذا تنازل الجميع عن الامتيازات بما فيهم الكنيسة (الاستلاء على أملاك الكنيسة واختيار الأساقفة والقساوسة من طرف مجالس التي أنشأها الثوار) والنبلاء (السيطرة على الأملاك والاقطاعيات)، وأشعلت النيران في قلاع النبلاء وسقط النظام بطريقة غير مباشرة، وساد فكر الأنوار في جموع الشعب، فالجميع أصبح مهتما بالسياسة في شوارع باريس، والجميع أصبح يرى نفسه يشارك في اتخاذ القرار، ليأتي دستور سنة 1791 ليقر وثيقة حقوق الإنسان، ولكن ما ميز هذه الفترة هو سيطرة الأندية على المشهد السياسي في فرنسا “اليعاقة” الجيرونديين”.
الثورة المضادة
أطلق الثوار حربا دامية وكارثية على الشعب خوفا من ثورة مضادة، وذلك لفرض ارادة الأندية “اليعاقبة” و الجيرونديين” التي كانت في صراع فيما بينها، حيث سيطر الجيرونديين على مركز القرار بعد استحواذهم على الجمعية التشريعية، وفي هذه الأثناء كانت الدول الأوربية في حنق على الثورة مخافة أن تتصدر لهم، وعلى اثر هذا قامت هذه الدول بمحاولات لكسر شوكة الثوار وذلك بدعم المعارضة المتمثلة في بعض من الأسرة المالكة الفارين من فرنسا وبعض النبلاء ورجال الدين، كما أن ليوبولد ملك النمسا وأخ الملكة ماري أنتونيت زوجة لويس 16 حاول أن يجد حلا لفرنسا لكنه كان مترددا من الحلول العسكرية، لكن بعد وفاته وتولي فرانسيس قرر الهجوم على فرنسا بعد اتحاده مع بروسيا، وبذلك هاجمت النمسا وبروسيا على فرنسا التي كانت تجتاح بلجيكا، وبعد حرب دامية كانت تنتصر فيها روح الثورة على حساب أكبر قوتان عسكريتين في أوربا.
هذه الحال أرعبت الدول الأوربية الأخرى لتنضم إلى هذا التحالف كل من اسبانيا وبريطانيا التي خافت أن تمتد التوسعات الفرنسية إلى هولندا، هذا التحالف الواسع جعل فرنسا تتقهقر وتتراجع قوتها، إلى أن وصلت الجيوش إلى باريس، وبعد معجزة عسكرية قادها نابليون بونابارت استطاعت الثورة أن تنتصر على كل القوى الأوربية، وبهذا كان الجيرونديون قد ولو أدبارهم أمام اليعاقبة الذين سيتولون حكم فرنسا، ولكن بأسلوب اجرامي.
ولعل الهجوم على فرنسا كان هو الحجر الأخير للنظام الملكي في فرنسا، حيث تم اعدام الأسرة الملكية كاملة في باريس على مرأى الجميع بما فيهم لويس 17 الذي كان طفلا ومات في السجن بطريقة غامضة.
روبسبير وحكم الفوضى
كان روبسبير واحد من أهم رجال اليعاقبة والذي تولى حكم فرنسا بطريقة استبدادية، حيث أطلق يده في الشعب الفرنسي، ولكن كانت له انجازات عظيمة خارج فرنسا، حيث استطاع التصدي للقوى الأوربية التي حاولت اسقاط الثورة بمساعدة الأقاليم الشمالية لفرنسا على رأسهم اقليم فاندي وبريتاني الذين كانوا أكثر تدينا وتمسكا بالنظام الاقطاعي، ولعل أن الاقطاعيين في تلك المناطق لم يهجروا أراضيهم للسكن في المدن، كما استطاعت فرنسا في عهد روبسبير من السيطرة على عدة أراض من دول أوربية مجاورة على رأسها إيطاليا وبلجيكا وبروسيا، ولكن السياسة الداخلية ل روبسبير كانت فوضوية وتعتمد على المقصلة والقتل، الأمر الذي سيجعل أصحاب القرار في فرنسا يقرروا القضاء على روبسبير. يمكنك قراءة مقال كامل عن هذه الفترة في التاريخ الفرنسي عبر الضغط هنا
حكومة الادارة
بعد سقوط روبسبير واعدامه عادت روح الثورة من جديد إلى شوارع فرنسا بعد سنة حالكة من القتل بالمقصلة على كل من يخالف أمر اليعاقبة، فعاد الجيرونديون من جديد من الخارج وأنشأ مؤتمر وطني وضع حكومة جديدة سميت بحكومة الإدارة، والتي كانت تضم مختلف الشرائح يمثلها 5 أشخاص، بالإضافة إلى ذلك تم وضع برلمان يضم مجلس تشريعي ومجلس الخمسمئة والذي كان تنفيذيا، لكن حكومة الادارة واجهت من جديد خطر الملكيين الذين عادوا من جديد في محاولة يائسة لإعادة النظام الملكي، لكن محاولتهم فشلت بعد ما تصد لهم بونابرت من جديد والذي سيرقى ليصبح قائدا للقوات الداخلية.
استطاعت فرنسا في عهد حكومة الادارة أن تعزز مكانتها كقوة لا تكسر في أوربا، حيث سعت إلى تصدير أزماتها الداخلية خاصة الاقتصادية إلى الخارج ونهب ثروات الشعوب الأوربية المجاورة، بالإضافة إلى ذلك نشر الأفكار التنويرية الثورية التي تميزت بها الثورة الفرنسية، فقد استطاع الفرنسيين ضم بلجيكا وهولندا التي أصبحت جمهورية وضم كل الأراضي الألمانية، كما استطاعت أن تضم إيطاليا التي كانت عبارة عن ممالك متفرقة تخضع لسيطرة النمسا، وبهذا كانت القوى الأربية مرعوبة من الانجازات التي تحققها فرنسا، وعلى رأسها النمسا التي حاولت جاهدة التصدي لهذا المد دون جدوى، وبريطانيا التي كانت مشغولة بالكوارث الطبيعية التي أوقفت حملة عسكرية كانت تسير نحو إيرلندا الثائرة.
حكم النظام القنصلي
فبعد الانتصارات التي قادها نابليون في ايطالية وقدراته الرهيبة في اخضاع الشعوب لروح الثورة الفرنسية المدنية، وقدرته على احتلال الفاتكان وأسر البابا الذي سيمثل بجثته في شوارع فرنسا، أصبح لنابليون صوت عال في كل أنحاء مستعمرات فرنسا، فقد وصل به الحد إلى أن أصبح يغزو ويبرم الاتفاقيات دون الرجوع إلى حكومة الادارة، ولعل ما استفادته منه إيطاليا اثر احتلال نابليون لها أنه كان الشرارة التي ستوحد أمال الشعب الإيطالي في تكوين دولة خاصة به، ورغم ما ارتكبه من مذابح ونهب إلا أن شعبيته كانت شائعة بين كل الشعوب، وبهذا فقد كان بونابارت يمثل خطرا على حكومة الادارة التي تقوم بنفيه إلى مصر، ليقطع طريق التجارة البريطانية الهندية لتصبح بريطانية لقمة صائغة أمام المد الفرنسي، الذي لم يستطع مواجهة البريطانيين بحريا، وبينما كانت الأحداث تسير على هذا المنوال قام الفرنسيون بقيادة حكومة الادارة “بارا – نابليون” بإبادة أخر الأصوات المنادية بالملكية داخل البرلمان الفرنسي في ليلة مرعبة من ليالي شتنبر 1797م.
وأما نابليون فقد غرق في مستنقع مصر والذي لقي هزيمة نكراء أمام الأسطول البحري البريطاني، حيث استطاع السيطرة على البحر الأبيض المتوسط، وهزيمته النكراء أمام أصوار عكة، ليعود من هناك خائبا ومنكسرا، وفي نفس الفترة كان الجيش الفرنسي يعرف خسائر كبير في الجبهة الأوربية إلى أن تراجع المد الفرنسي إلى حدوده الأولى، هذا جعل بونابرت يقرر العودة إلى فرنسا خفية، وبوصوله هناك تحالف مع سييز لقلب النظام وانشاء نظام قنصلي يكونان فيه هم القادة، وهذا ما حدث بعدما استطاع الانقلاب النجاح في 9 من نونبر 1799م اثر اجتماع مجلس 500 ، وبهذا كان نابليون قد استطاع السيطرة على الحكم باعتباره القنصل الأول، وسييز القنصل الثاني و روجيه دوكوس القنصل الثالث.
الثورة الفرنسية
وقد كان لكل قنصل دوره وأهم دور هو القنصل الأول الذي كان يمثل السلطة التنفيدية ورئيس الحكومة، وأما القنصل الثاني فكان يمثل شؤون الداخلية والعدل ورئيس المجلس التشريعي، والقنصل الثالث كان مسؤولا عن الشؤون المالية والتجارية.
حكم نابليون بونابرت
فقد كان النظام القنصلي نظاما شبه صوري، حيث كانت أغلب القرارات تتخذ من طرف نابليون الذي سيطر على المشهد السياسي، حيث لم يكن له ميول سياسي لأي نادي من الأندية، كما أنه لم يكن مهتما بتدين الناس، عكس حكومات اليعاقبة الذين كانوا يضعون قوانين صارمة ضد أي شخص يخالف أفكارهم، كما عمل بونابرت على تعزيز شعبيته من خلال اعطاء المناصب لأصحاب الكفاءات، مما عزز قوة الدولة في جل المجالات، وعمل كذلك على وضع قوانين ضريبية عادلة وانشاء البنك المركزي سنة 1800، كل هذا جعل شعبيته تتزايد في الداخل، وأراد أن يعزز شعبيه حتى في الخارج بإقامة صلح مع الدول التي كان يحاربها طيلة سنوات الثورة، لكن النمسا وبريطانيا رفضت هذا التلويح.
وقد أصبح بونابرت قنصلا مدى الحياة في سنة 1804 بعد الاستفتاء، ليصبح في 2 من دجنبر سنة 1804 إمبراطور فرنسا، ورغم هذا التتويج إلا أنه احتفظ بمبادئ الثورة، ولكن كانت هذه هي الحلقة الأخيرة في معالم الثورة الفرنسية التي ستشهد بعد هذا الحدث عدة مواجهات مع الدول المجاورة، ولكني أنا شخصيا أرى أن نهاية الثورة الفرنسية انتهت بتتويج نابليون إمبراطورا لفرنسا رغم أنه لم يتخلى على مبدأ الجمهورية، وهذا في نظري تناقض صارخ لا يمكن اغفاله.
يمكنك قراءة مقال كامل عن نابليون بونابرت وكيف قاد البلاد كإمبراطور اضغط هنا