فريدريك نيتشه الفيلسوف الذي هز عروش العقائد | من جنون العظمة إلى الجنون الحقيقي
ولد فريدريك فيلهلم نيتشه قرابة الساعة العاشرة صباحا في الخامس عشر من أكتوبر سنة 1844 في قرية روكيت بلوت، وهي قرية صغيرة من قرى ألمانيا الريفية الواقعة على أرض زراعية في الجنوب الغربي من لايبزغ، حيث صادف تاريخ مولد فريدريك نيتشه الذكرى التاسعة والأربعين لمولد ملك بروسيا فريدريك فيلهلم الرابع الذي سمي نيتشه باسمه.
والد نيتشه هو كارل لودفيج نيتشه كان صاحب جسد هزيل لديه أمراض عديدة، أي أنه كان متناقضا مع ما كانت عائلته الموغلة في الأرستقراطية تنادي به، وورث الابن كل هذا عن الأب، وقد نشأ نيتشه وسط عائلة متدينة، فقد كان خاله قس لوثري حاله كحال جده أيضا، أما جده لأبيه فريدريك أوغست لودفيج نيتشه فقد كان علاوة على كونه قسا عالما بروتستانتيا بارزا، وهو من الذين شددوا في كتاباته على مقولة خلود المسيحية وتعود أصول جدي نيتشه وجدته إلى مقاطعة سكسونيا، لقد كانت البيئة التي نشأ فيها نيتشه والطريقة التي ربي عليها كان لهما أثرهما البالغ في تكوين شخصية هذا الفيلسوف.
لقد ربي فريدريك نيتشه على توقير والده الذي توفي مبكرا ولكن تم استحضاره بشكل مستمر كنموذج لإبنه، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن العائلة كانت تحب أفرادها الراحلين حقا، ولكن أيضا لأنه كان الصبي الوحيد الباقي على قيد الحياة في عائلته وفي تلك الأيام كانت الهيمنة الذكورية بالإضافة إلى كونه كان أمل وطموحات العائلة، فقد أرادو أن يبدأ الصبي من حيث توقف أبوه ويستعيد شعلة الرجل الساقطة.
الظروف التي ترعرع فيها نتشه
قد كان فريدريك طفلا سريع الغضب، ولذلك فإن فرانسيس تركت أغلب مسائل الصبي التأديبية لزوجها، وذلك لسبب وجيه هو أن فريدريك لم يكن يقبل أن يعنف، كما وصف على أنه طفل صاخب فعندما كان يغضب كان يرمي نفسه على الأرض، فيما كان من الواضح أنه يعاني من نوبة غضب فإن والدي الطفل اكتشفا طريقة سريعة لتهدئته، فقد كان والد فريدريك محبا للموسيقى، وكانت التسلية الوحيدة التي سمح لنفسه بها خارج الدراسة، حيث أحسن العزف مرتجلا بشكل استثنائي، وقد وجد أنه ما إن يلمس مفاتيح البيانو ليبدأ الطفل بالنمو بشكل هادئ، ومن وقتها كلما بدأ الطفل بالغضب كانت فرانشيسكا تتوسل زوجها ليعزف على البيانو.
طبعا مارس لودفيج أيضا أساليب أكثر تقليدية في التربية كالعقاب البدني والتحذير من الغضب الإلهي، وأخيرا إعطاء الطفل النموذج الجيد الذي يحتذي به، عمل لودفيج مرتين كمعلم وربما كان يملك مهارات جيدة في التعامل مع الأطفال، ويبدو أن الطفل فريدريك قد استجاب لتوجيهات معلمه برغبة، وهذا ما وجدته العائلة مريحا ومطمئنا.
لقد كان بلا شك طفلا استثنائيا جيدا ذا عزة نفس، وفوق هذا كله طفلا يستطيع التحكم بتصرفاته، لقد كان عيبه الوحيد هو ما ذكر سابقا وهي نوبات الغضب والعناد في بعض الأحيان، أحب فريدريك أن يتجول بمحاذاة البركة خارج المنزل وأن يلعب في المقبرة التي جاورت بيت الكاهن، وصنع أيضا صداقات مع أطفال محليين، وتذكرهم لاحقا بمزيج من الحزن والشوق، لقد تنزه مع أبيه لمسافات طويلة في كثير من الأحيان، وبدأ يتطور عنده حب الطبيعة الذي سوف يغذيه ويلزمه طوال حياته، وما أن شارف نيتشه على سن الخامسة من عمره حتى توفي والده إثر علة دماغية، وأتبعه بعدها بستة أشهر الوفاة الصادمة لأخيه يوزف لودفيج بسنتين، وسرعان ما غادرت العائلة بلدة روك بعد وفاة كارل لودفيج تاركة خلفها المنزل الواقع على مقربة من الكنيسة والمخصص لراعي الكنيسة وعائلته.
فقدان الوالد
إن مفارقة مسقط رأسه والموطن الوحيد الذي عرفه كان صعبا على الصبي ابن الخامسة لقد فقد والده والأن يفقد بيته وتلك الخسارة الثانية وسوف يشعر تقريبا بنفس الألم الذي شعر به أثناء فقد والده، لم يكن قادرا على النوم، لقد عاشت العائلة هناك لسبعة أعوام على الأكثر، ومع ذلك اعتبروها كوطن العائلة الحقيقي، إن الشوق للمكان الذي نشأ وتربى فيه قد ضرب جذوره عميقا في نفسه، كان ينظر إليه بمثابة رمز الجنة المفقود طوال حياته، انتقلت عائلة نيتشة إلى هامبورغ حيث أقام نيتشة مع أمه فرانشيسكا وجدته إدموند وعمته أوغست ورسل وأخته الصغرى تريزا إليزابيث الكسندرا.
وقد وجد فريدريك أن المدينة غير جذابة في مطلق الأحوال، ولكن الظروف التي قدم إلى المدينة تحت وطأتها ستؤكد علميا ردة فعله السلبية تجاه عاداتها كونها بديل أدنى للحياة كما كانت ينبغي أن تكون، فقد كتب في مذكراته كان أمرا رهيبا بالنسبة لنا بعد معيشتنا في الريف وقتا طويلا أن نقيم في المدينة واعترض بشكل خاص على حجمها.
فرانشيسكا
وخلال أعوامه الأولى في هامبورغ افتقد فريدريك وجود والده بقوة فلو بقي والده على قيد الحياة لكان فريدريك سيخضع لقيادة وتوجيه رجل بمقدوره في ذلك المجتمع الذكوري أن يوجه الأطفال بدراية أكبر في بيئتهم الاجتماعية والمهنية وبوفاة لودفيج، وقعت هذه المسؤولية على عاتق فرانشيسكا التي لقلة تعليمها لم تستطع توجيه ابنها بنفس القدر من المعرفة والسلطة، لاسيما في مدينة كبيرة مثل هامبورغ، والتي لا بد أنها بدت شبه غريبة لها كما بدت لابنها وإدراكا منها لقدرتها استشارت الأقارب والأصدقاء باختلاف رؤاهم وحساسيتها، يمكن للمرء القول أن فريدريك لم ينشأ على يد أي من الوالدين بل على يد لجنة نوعا ما، والتي كانت فيها والدته المدير الشارد إلى حد ما.
كانت إدموند تعرض المشورة في بعض الأحيان، وأحيانا ديفيد، وفي حين أخر جار يقطن في أخر الشارع، خلال كل ذلك اختارت فرانسيسك الاقتراحات بعناية وقامت بتقديم رعاية لابنها بأفضل ما أمكنها، ومع ذلك فإن الطبيعة العشوائية لتلك التوجيهات ستصبح لاحقا مصدرا للأسف بالنسبة فريدريك الذي أدرك لاحقا أن الكثير كان سيختلف لو أن والده أشرف على تربيته، والأن فقد حان الوقت لتسجيل الصبي في مدرسة رسمية.
دخول نتشه إلى المدرسة
دخل نيتشه إلى مدرسة ناسيونال، وهي مدرسة متوسطة وثانوية مدتها تسعة أعوام فقط إذا تخرج من مؤسسة كهذه يمكن له الحصول على الأبتر، وهي شهادة هامة ليتمكن من الذهاب إلى جامعة بروسيا، تكمن المشكلة في نوع المدرسة التي سيذهب إليها فريدريك قبل الجميع، فقد كان الفتيان من الطبقات العليا بصفة عامة إما يأخذون دروسا خاصة أو يرسلون إلى مدرسة تحضيرية، ولكن الموارد المالية لعائلة نيتشه كانت محدودة، ولعلهم لذلك اختاروا عدم سلوك هذا النهج.
وفي نهاية المطاف سجلوا الصبي في مدرسة تحضيرية، ولكنه سيمضي سنتين ونصف إلى ثلاث سنوات في مدرسة أولاد البلد، وهي مؤسسة عامة مخصصة لأبناء عمال الأشغال اليدوية والتجار، ولكن ليس الفقراء، حيث أن الصبايا ذوي تلك الخلفيات لم يتحصلوا من تعلم اللاتينية واليونانية على فائدة تذكر، وهم عموما يرتادون المدرسة حتى عمر الرابعة عشر ثم ينطلقون للعمل إلا إذا ما أظهروا طموحات أكبر، كثيرا ما تميل مدارس أولاد البلد إلى التركيز على التعليم الديني، بالإضافة إلى تعليم الألمانية والحساب العملي والجغرافيا والتاريخ، وبشكل خاص التاريخ البروسي، ومعرفة سطحية لبعض المواد الأخرى، لا بد لمنهاج كهذا أن يبدو محدودا لطالب جامعي محتمل.
في عيد الفصح 1853 عندما كان الصبي في الثامنة من عمره، تم نقله من مدرسة أولاد البلد إلى منشأة خاصة لها عنوان فخم، هذا المعهد المؤلف من صفين على الأقل وستة أعضاء للتدريس كان فعلا مدرسة تحضيرية يديرها كارل موريتز فيبر، كان فيبر يرعى أطفال ميسوري الحال، لذا كان يتم إيصال التعليم في معاهده بطريقة لطيفة ويتم تطبيق التأديب بمهارة، وكانت مواد التعليم موجهة نحو التعليم العالي.
معهد فيبر
فبعد قرابة الثلاثة أعوام من التمدرس في مدرسة غير موثوقة، انتمى فريدريك وأخيرا إلى هيئة طلابية تتضمن أطفالا من نفس طبقته الاجتماعية، ويبدو أنه في هذا المكان أيضا تيقظ الصبي للمرة الأولى لمتعة الأصدقاء، وكان لالتحاق فريدريك بمعهد فيبر الأثر الكبير على شخصيته من شخص كئيب ووحيد إلى شخص مبتهج واجتماعي، ويبدو أن فريدريك نتشه قد تأقلم أخيرا مع العالم الذي كان قد صده سابقا.
في أكتوبر عام 1855 انتقل الأولاد من معهد السيد فيبر إلى كاتدرائية الجميل، حيث سيدرسون اللاتينية واليونانية وكذا أساطير الآلهة القديمة، وقد بدأ الأطفال مبكرا رحلتهم الأدبية، ففي سن مبكرة قاموا بالاشتراك في تأليف العديد من القصائد والمسرحيات وقد شارك نيتشه في كتابة مسرحية الآلهة على أولمبيا، لكنه عانى من قلة النوم حيث كتب أنه كان لا ينام أكثر من خمس أو ست ساعات ليلا مما جعله يعاني من صداع في سن 12 من عمر، مما أتاح له الوقت لكتابة رواية الموت والفساد وتأليف الموسيقى التي كان مولوعا بها وأحسن العزف على عدة آلات.
رفض الأم التخلي عن ابنها
ظهر التوتر حول مستقبل فريدريك التعليمي منذ عامه العاشر حتى نهاية عامه الثالث عشر، ويبدو أن انتقاله من معهد فيبر أدى إلى أزمة تعليمية في منزل نيتشه، حيث أن جده وإخوة فرانشيسكا نفسها التي كانت لا تزال على قيد الحياة في ذلك الوقت تجادل بأنه ينبغي نقل الصبي إلى مدرسة للأيتام في مدينة هاله، حيث سيحصل على منحة تعليمية ويعطى التعليم الديني المتين المناسب للقس في المستقبل، إلا أن فرانشيسكا وفجأة وعلى ما يبدو للمرة الأولى في حياتها اتخذت موقفا شخصيا في وجه السلطة الموحدة لوالدها وإخوتها، ورفضت الانفصال عن ابنها في سنه المبكرة، ووقفت على وجه الخصوص في وجه والدها الذي قام بالترتيب مع مدير المدرسة الذي سيخبر العائلة بمجرد الافتتاح، وبعد عقود من الزمن وقبل وفاتها بقليل ما زالت فرانشيسكا تتذكر تصميمها بشأن هذه القضية.
كانت المنح الدراسية قضية دائمة تدور في أذهان عائلة نيتشه، بسبب تردي أوضاعهم المادية رغم كونه من أسرة نبيلة لكننا نتحدث عن القرن 19م حيث كان النظام الاقطاعي قد تراجع بسورة كبيرة وصعود البرجوازية طبقة عليا في المجتمعات الأوربية، وبمساعدة إيراسموس بدأ فريدريك نيتشه البحث للحصول على منحة دراسية في شوبرت، وهي مدرسة داخلية ممتازة تخرج منها عدة علماء ومفكرون وفي نفس الوقت تبعد فقط خمسة كيلومترات عن مكان سكن العائلة مما يجعل فرانسيسك تستطيع زيارته بانتظام، ورغم أن نيتشه كان طالبا عاديا إلا أنه تلقى دروسا في الصيف من قبل غوستاف أدولف صديق والده، لكي يستطيع النجاح في الاختبار الأولي للقبول في أكاديمية شوبرت.
مستوى نيتشه الأكاديمي
وقد ظل نيتشه طيل وجوده في هذه الأكاديمية طالبا عاديا لكنه عومل بطريقة استثنائية لكونه كان يتيما من ولده الذي مات خدمة لبروسيا، وقد ضاع ل نيتشه عام كامل قبل الالتحاق بهذه الأكاديمية لكونه لم يحصل على المنحة إلا بعد مرور عام كامل وخاصة سنة 1858م ، ومن جانب أخر فقد كان هذا العام ذا طابع انتقالي بالنسبة ل فريدريك حيث تطور شعريا متنقلا من السلس إلى القصائد الموزونة والمعقدة، ومن ناحية أخرى فقد كان يدخل سن المراهقة وهو التحول الذي يمكن أن يكون مربكا وساهمت والدته في عدم الاستقرار هذا، ففي أواخر الصيف أو أوائل الخريف قررت الانتقال مجددا إلى منزل جديد.
خلال هذه المتاهة قام نيتشه بتأليف ما يمكن القول أنه تحفة سنين طفولته، فقد قام بكتابة مذكراته وبدأ بتأليف كتاب سيرته الذاتية، حيث أمضى نيتشه في بورتا ستة أعوام، أي أقل بسنتين فقط مما أمضاه في هامبورغ مع أن الظروف كانت مختلفة جدا، ففي البلدة كان طفلا يتوقع منه أن يكون مطيعا.
وفي المدرسة الداخلية واجه المزيد من التنظيم، ولكن أحب نيتشه أن يكون له طريقه ويبدو أنه اعتقد بما أنه الرجل الأخير على قيد الحياة في عائلته، فقد شعر بمسؤولية تطوير نفسه لذا كان يميل للتقليل من أهمية دور والدته، إلا أن المدرسة كانت تقوم بالكثير من الوظائف التي كانت تقوم بها والدته، فقد كانت تتيح له التعليم والإرشاد الذين كان قد حرم منهما، حيث كان نظام المؤسسة شبيها بالنظم العسكرية؛ ومع ذلك فقد كيّف نيتشه نفسه سريعا مع تركيبة بورتا للانضباط والبناء، على عكس بعض زملائه الذين واجهوا بعض الصعوبات في ذلك.
لم يكن نيتشه طالبا جيدا في الماضي، لكنه يسعى جاهدا لجعل نفسه متفوقا الأن، وخلال سنته الأولى انخرط في روتين جديد كان يظهر تصميما أكثر مما مضى على الدراسة، وبدأت تتغير أولوياته تدريجيا.
تنشئة نيتشه الدينية
كانت المدرسة التي تمدرس فيها نيتشه غير مهتمة بالجانب الديني رغم كونها كانت كنيسة لمدة طويلة، ليسقط قناعها بعد الاصلاح الديني الذي حدث في ألمانيا، سوف يطعن هذا في تنشئة نيتشه المسيحية ومخاوفه بخصوص الهوية، وبالنظر لحياة نيتشه الاجتماعية من السهل تصوره وحيدا مهتما بالفنون والمنحة الدراسية على حساب المواضيع الشائعة الأخرى، كل ذلك أكد بأنه لن يكون ناجحا على الصعيد الاجتماعي أبدا إسوة بالأولاد الأخرين، وقد استغرق الطالب الجديد شهورا ليتحول من كونه مجهولا هوية له ليصبح معروفا ومؤثرا لدى معلميه، وبحلول عيد الفصح في سنته الثانية في المدرسة، كان قد حاز على لقب الطالب الأول في صفه، وهو منصب يشير إلى أنه لم يكن فقط الأول أكاديميا على صفه، ولكنه سيصبح المسؤول عن حفظ النظام ضمن مجموعته عندما يكون المعلم غير موجود.
نيتشه المحب للمسيح
نال فريدريك في السنوات اللاحقة لقب الطالب الأول عددا من المرات، ونال أيضا الدرجة الأولى ثلاث مرات، وعلى الجانب الأخر فقد اتبع نيتشة طموحاته الفنية مشتغلا على المقالات والمسرحيات والخيال، فضلا عن العديد من الأعمال الموسيقية. في صيف عام 1860 أطلق نادي جرمانية مع ثنان من أصدقائه، وفي السنة الموالية خضع لسر التثبيت المقدس، وهو حدث قد تطلب ستة أشهر من التدريس في التعاليم المسيحية. ومع اقتراب الحفل التخرج نصحه الجميع أيحذو حدذوة عائلته بأن يصبح رجل دين، وقد كان نيتشه متحمسا كثيرا لهذا الاقتراح في بداية الأمر حتى أن كتاباته الشعرية تظهر طاعته للمسيحية واستعداده للموت لمقابلة المسيح حسب تعبير زميل له.
نيتشه الملحد
سرعان ما بدأ تدين فريدريك يتضائل مع استمراره في التمدرس، الأمر الذي سيحوله من الشخص الورع للدين إلى مشكك، حيث قدم نيتشه أول ورقة فلسفية بعنوان المصير والتاريخ، وفيها اعترف بالشكوك المتعلقة بالمسيحية وأعاد صياغة مواضيع قد أزعجته في مقالاته الأنثروبولوجية والجغرافية الذاتية، أكد نيتشه في المصير والتاريخ على المصاعب التي تواجه أي شخص يحاول تحرير الذات من التنشئة المسيحية، ومن هنا يبدو جليا أنه بدأ إعادة النظر في معتقداته ويتحول إلى الشك والإلحاد.
فقد كان ل فريدريك شكوك فيما يتعلق بالمسيحية لكنه لم يخبر والدته، كان مرتابا بشأن السلطة ولكنه مع ذلك تابع تنفيذ أوامرها، وكان يفعل ما يطلب منه، وعندما كان طفلا لم يكن لديه سوى خيار التظاهر أو التمرد في بعض الأحيان، وعندما أنهى دراسته في بورتا كان عليه أن يختار بماذا سوف يتخصص بالجامعة، لكنه كان مترددا في أي مجال من مجالات المعرفة سوف يتخصص هل علم اللاهوت أم علم اللغة أم موضوع أخر، وفي النهاية قرر نيتشه دراسة علم اللاهوت وعلم اللغة سويا، واختار الالتحاق بجامعة بون مع صديقه يوسين رغم أن صديقيه فيلهلم غوستاف التحقا بجامعة هايدلبرغ، وبالرغم من أنهما قد حثه على الانضمام إليهما، إلا أنه رفض ذلك وقرر اختيار جامعة بون لوجود قسم ممتاز لعلم اللغة، ويبدو أن اختياراه دليلا على عدم اهتمامه أن يصبح كاهنا، بالرغم من أنه لم يخبر عائلته حتى الأن بارتباطه المتزايد عن الدين.
تأثر نيتشه ب شوبنهاور
كانت مدينة بون كاثوليكية بامتياز حيث كل أربعة من خمسة من السكان يعتنقون الكاثوليكية لم يكن فريدريك مرتاحا للوضع في بون، فانتقل لاحقا إلى جامعة لايبزغ في عام 1865 وهناك ظهرت أول منشورات نيتشه الفلسفية بعد فترة وجيزة في ذلك العام درس نيتشه بدقة أعمال أرثر شوبنهاور وانغمس في قراءته وهو مدين بصحته الفلسفية لكتاب شوبنهاور العالم كله إرادة وتصور، وقد ذكر في وقت لاحق أن شوبنهاور واحد من عدد قليل من المفكرين الذين يحترمهم وكرس له مقالا بعنوان شوبنهاور مربيا في كتابه تأملات قبل الأوان، تأثر أيضا في تلك الفترة بالفيلسوف فردريك ألبرت لانج وكتابه تاريخ المادية الذي صدر عام 1866 خلال تلك الفترة أقام صداقة وثيقة مع زميله الباحث التاريخي إروين رود، واشترك عام 1866 في تأسيس جمعية فقه اللغة الكلاسيكية في جامعة ليدز.
نيتشه جندي في الحرب النمساوية البروسية
اندلعت الحرب النمساوية البروسية واستدعي نيتشه في عام 1867 على الرغم من ضعف بصره وكونه الابن الوحيد لأمه الأرملة، التحق بالجيش الألماني المتصف بالصرامة تحت نظام السنة الواحدة إلى سلاح المدفعية البروسية في نورمبرغ في مارس 1868 تعرض لحادثة سقوط خطيرة من على الفرس وأصبح عاجزا عن المشي لأشهر بعد أن وقع عن صهوة حصانه، دفع هذا قائد فرقته أن يعفيه من الخدمة بعد إصابته، وقد استغل فترة علاجه للتفرغ وإنهاء دراساته الفلسفية في الجامعة، أنهاها أخر ذلك العام، وقد ظل طول عمره متأثرا بالحياة العسكرية التي عرفها في الجيش في ذلك العام أيضا كان لقاؤه الأول مع الموسيقار الألماني الشهير ريتشارد فاغنر.
تخرج نيتشه من الجامعة
اهتم نيتشه في سنة التخرج بالمسرح والفلسفة الإغريقية القديمة، حيث فضل الفلاسفة الأذريين على الذين ظهروا فيما بعد سقراط وأرسطو، وتأثر بالفلسفة الإيبيرية بشكل خاص وبناء على توصية من فريدريك ريتش أستاذه في جامعتي بون وليدز، عين نيتشه بسن 24 أستاذا مشاركا لعلم اللغة الكلاسيكية في جامعة بازل في عام 1869 حتى قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراه وقبل استلام شهادة التأهيل الاستاذية، على الرغم من أن عرض التدريس هذا جاء في وقت كان فيه نيتشه يفكر في التخلي عن علم اللغة والاتجاه للعلوم، وحتى يومنا هذا لا يزال نيتشه بين أصغر الأساتذة المسجلين.
عمل في نفس الوقت مدرسا للغة في الثانوية المتقدمة في ساحة الكاتدرائية في بازل، بناء على طلبه تخلى نيتشه عن الجنسية البروسية بعد انتقاله إلى بازل وظل بدون جنسية بقية حياته، مع ذلك فهو قد خدم في الحرب الفرنسية البروسية لفترة قصيرة كمشرف على الجانب الألماني، وخلال ذلك الوقت أصيب بعدة أمراض واحتاج لفترة نقاهة طويلة، نظر نيتشه بريبة وتشكك إلى تأسيس الرايخ الألماني وحقبة أوتو فون بسمارك، لكنه تأثر بوحدة ألمانيا وزعيمها بسمارك، ورأى فيه في أول الأمر كمالا للشخصية الألمانية، يقول نيتشه في رسالة من عام ألف وثمانمائة وثمانية وستون بسمارك يمنحني سعادة غامرة، أقرأ خطبه كما لو كانت نبيذا مسكرا، لكنه لاحقا وصفه بالمغامرة المضحك في جامعة بازل عام 1870.
تعرف على زميله أستاذ الإلهيات الملحد فرانز أوفر بيك، الذي ظل صديقا لنيتشه حتى فترة مشاكله العقلية، كما كان يكن تقديرا لزميله الأكبر سنا أستاذ التاريخ المعروف يعقوب بوركهارت، وكان يحضر محاضراته، كما كان نيتشه يزور باستمرار ريتشارد فاغنر في بيته في كانتون لوسيرن.
أعمال فريدريك نيتشه وفكره
في عام 1872 نشر نيتشه أول عمل مهم له ولادة المأساة من روح الموسيقى، وهي دراسة تبحث أصل المأساة وقد استبدلت طرق الدراسة اللغوية الكلاسيكية بالدراسة الفلسفية التكهنية، يتحدث فيها عن الأساطير الإغريقية وارتباط الحضارة بالموسيقى، في تلك الدراسة طور أسلوبه في علم النفس حيث حاول شرح المأساة اليونانية من خلال مفهومي أبولو ديونيسيوس ولم يعجب البحث معظم زملائه الكلاسيكيين، وفي سنة 1876 توترت علاقته ب فاغنر، وكانت القطيعة بينهما هي الشرارة التي أطلقت فكر نيتشه مثل العاصفة على القيم الأوروبية، إذ رأى في المسيحية انحطاطا ونفاقا، وأن النمط الأخلاقي الصائب هو النمط الإغريقي الذي كان يمجد القوة والفن ويستخف بالرقة والنعومة وطيبة القلب التي رأها من صفات المسيحية مع نشر كتابه إنساني جدا في عام 1878 وهو عبارة عن مجموعة من الأمثال التي تتراوح بين الميتافيزيقيا والأخلاق إلى الدين والدراسات الجنسانية.
ظهر بوضوح أسلوب نيتشه الجديد المتأثر بشكل كبير بكتاب الفكر والواقع للفيلسوف الروسي أفريكان سباير، حمل الكتاب رد فعل ضد الفلسفة المتشائمة فاغنر وشو بي هاوزر و رفيقيه أورين روز وبول نيوتن، بعد انحدار كبير في صحته وتفاقم أمراض الطفولة ونوبات الصداع النصفي واضطرابات المعدة، فضلا عن قصر النظر الشديد الذي أدى في النهاية إلى العمل العملي التي عطلته عن واجباته في التدريس، مما دفعه إلى الاستقالة في عام 1879 من منصبه في جامعة بازل.
حياة نيتشه بعد تدهور صحته وحلم العيش في تونس
دفعته أمراضه في البحث المستمر عن الظروف المناخية المثلى بالنسبة له، فسافر كثيرا وعاش في أماكن مختلفة ككاتب مستقل حتى سنة 1889 ، حيث جال أصقاع أوروبا لكي يجد مكانا يناسب حالته الصحية، وأقام فترات الصيف في سيلز ماريا جنوب شرقي سويسرا في أعالي الجبال، كان يعتمد قبل كل شيء على راتب التقاعد الممنوح له، كما كان يتلقى المساعدات المالية من حين لأخر من الأصدقاء، كان يقضي الصيف غالبا في سان موريتز في سويسرا، وفصل الشتاء في إيطاليا في جنوا بابلو وتورينو، وفي فرنسا في نيس، وبعد الاحتلال الفرنسي لتونس فكر في السفر إلى تونس لكي يرى أوروبا من الخارج لكنه استبعد الفكرة لأسباب صحية.
كان يزور عائلته باستمرار في هامبورغ، لكنه كان دائم الخلاف ثم المصالحة مع أخته إليزابيث أثناء وجوده في جنوة، دفعه ضعف النظر إلى محاولة استخدام الآلات الكاتبة كوسيلة لمواصلة الكتابة، لكنه في النهاية استعان بطلاب سابقين عنده ليعملوا لديه، وتكفل أحدهما وهو بيتر غاس بنقل ما كتبه نيتشه بخط يده، وظل بيتر غاس منذ ذلك الوقت ينسخ ويدقق ويصحح كل أعمال نيتشه تقريبا.
التقاء فريدريك بحب حياته في أسوء اللحظات
في سنة 1882 التقى فريدريك لأول مرة بلو أندرياس سالومي، وهي فتاة روسية عمرها واحد وعشرون عاما وأمضيا الصيف معا، وكانت ترافقه أخته إليزابيث، وقد ذكرت سالومي أن نيتشه طلب منها الزواج في ثلاث مناسبات وأنها رفضت على الرغم من أن مصداقية حديثها موضوع تساؤل، كانت علاقة نيتشه وسالومي معقدة، فهي في الأساس صديقة صديقه بول ري، وقد انقطعت علاقة نيتشه مع سالومي في شتاء سنة 1883، وكان السبب في ذلك مؤامرات أخته إليزابيث.
أحب فريدريك تلميذته الفتاة البروسية التي فارقته بعد رفضها له وزواجها تشارلز أندرياس، حيث قبّل الأرض من تحت قدميها لكي تقبل به، لكنها رفضت فاستمر بالإلحاح عليها حتى قادته إلى الجنون، كما أنه وقع في الحب عدة مرات، لكنه فشل بسبب عينيه الحادثتين ونظراته المخيفة برأي الفتيات، لذا اتسمت حياته بالكتابة حتى نهايتها.
البؤس يعتري حياة فريدريك وكتابة هكذا تكلم زرداشت
وفي خضم النوابات متجددة من المرض، عاش نيتشه في عزلة بعد مقاطعته والدته وشقيقته بسبب سالومي، ففر إلى بابلو وهناك كتب في عشرة أيام فقط الجزء الأول من كتابه الأشهر هكذا تكلم زرادشت، في تلك الفترة أصيب نيتشه بمرض شديد وشارف على الموت، حيث أوصى أخته وخطبها قائلا إنما إذا ما مت يا أختاه لا تجعلي أحد القساوسة يتلو علي بعض الترهات في لحظة لا أستطيع فيها الدفاع عن نفسي، ولكنه بعد ذلك شفي وذهب إلى جبال الألب ليتعافى ويكمل كتابه هكذا تكلم زرادشت، بعد أن قطع نيتشه علاقته الفلسفية مع شوبنهاور وعلاقته الاجتماعية مع فاغنر، لم يبقى لنيتشه إلا عدد قليل من الأصدقاء، بعد كتاب زرادشت ذي الأسلوب الجديد، صارت أعمال نيتشه أكثر غرابة، واستقبلها السوق بأقل اهتمام.
كان نيتشه يعرف ذلك ويشتكي منه لكنه زاد من عزلته وظلت كتبه غير مباعة إلى حد كبير، في سنة 1885 لم يطبع إلا أربعين نسخة فقط من الجزء الرابع من كتاب هكذا تكلم زرادشت، ووزع معظمها بين الأصدقاء المقربين، في عام 1883 حاول وفشل في الحصول على وظيفة محاضر في جامعة لايبزغ، وقد اتضح له بعد ذلك أنه نظرا لمواقفه من المسيحية ومن الإله أصبح غير مقبول في أي جامعة ألمانيا.
صراع فريدريك مع صاحب المطبعة
في عام 1886 اختلف نيتشه مع ناشره إرنست شميت بعد أن استاء من سوء تسويق كتبه، فقد رأى نيتشه أن كتبه مهملة أو مدفونة في هذا المستودع المعادي للس|||امية، بعد ذلك طبع نيتشه كتابه ما وراء الخير والشر على نفقته الخاصة، كما حصل على حقوق النشر لأعماله السابقة، وعلى مدى العام المقبل أصدرت طبعات ثانية من كتابه ولادة المأساة وإنساني إنساني جدا، والحكمة الماتعة وأضاف إليها مقدمات جديدة ليضع مجمل أعماله في سياق أكثر تماسكا، بعد هذا رأى أن عمله قد اكتمل وأعرب عن أمله في أن يزداد قرائه قريبا، في الواقع ازداد الاهتمام بفكر نيتشه شيئا ما في ذلك الوقت وإن كان ببطء وبالكاد لاحظه هو، وفي عام 1886 تزوجت شقيقته إليزابيث، وسافرت هي وزوجها إلى الباراغواي ليؤسس ألمانيا الجديدة وهي مستعمرة ألمانية .
بيوت الدعارة تعصف بحياة فريدريك
استمرت علاقة نيتشه بأخته إليزابيث من خلال المراسلات تخللتها فترات خلافات ومصالحات لم يلتقيا مرة أخرى إلا بعد انهياره العقلي، ظل نيتشه يتعرض لهجمات متكررة ومؤلمة من المرض، ما جعل العمل المتواصل مستحيلا سواء كان جسديا أو عقليا، وكانت حياته حياة استثنائية في مصارعة الألم والصداع وألم الرأس و الاستفراغ نتيجة إلى مرض السافلة الذي التقطه من بيت دعارة في لايبزغ في عام 1887، كتب نيتشه مؤلفه المثيرة للجدل عن جيانلويجي الأخلاق، على الرغم من أنني قد ذكر في نهاية كتابه عن جيانلويجي الأخلاق أن عمله القادم سيكون بعنوان إرادة القوة محاولة لإعادة تقييم جميع القيم، فإنه تخلى عن هذه الفكرة وبدلا من ذلك استخدم بعض مسودات ذلك الكتاب في تأليف كتبه التي نشرها ذلك العام.
في نفس العام ألف خمسة كتب وقد تحسنت صحته مؤقتا، وفي الصيف كان في معنويات عالية لكن كتاباته ورسائله من خريف عام 1888 تشير بالفعل إلى بدء إصابته بالوهن، حيث كان يبالغ في ردود الفعل على كتاباته، خاصة كتابه المثير للجدل قضية فاغنر، في عيد ميلاده الرابع والأربعون قرر أن يكتب سيرته الذاتية بعد أن أنهى كتابه شفق الأصنام الذي كتبه في أسبوع والمسيح الدجال، وفي ديسمبر في رسائل له مع الكاتب السويدي أوغسطس توين بيرغ، اعتقد نيتشه أنه كان على وشك تحقيق انطلاقة دولية، حيث حاول شراء حقوق كتبه القديمة من الناشر الأول، وكان يخطط لأن تترجم إلى اللغات الأوروبية الرئيسية، إضافة إلى ذلك كان يعتزم تجميع ونشر مقالة بعنوان نيتشه ضد فاغنر وتجميع قصائد له في ديوان.
نيتشه يصاب بالجنون
في الثالث من يناير 1889 تعرض نيتشه لانهيار عصبي حيث لحق به شرطيان بعد اضطراب أحدثه في شوارع تورينو، القصة الحقيقية غير معلومة، لكن الشائع أن نيتشه سمع صهيل حصان يجلد بالسوط في أخر ساحة قصر كريستيانو، فركض إلى الحصان ثم رمى ذراعيه حول عنقه واحتضنه ليحميه ثم انهار على الأرض، شخص البعض سبب الانهيار على أنه شلل تدريجي نتيجة لمرض الزهري، ويعتبر هذا التحليل مثيرا للجدل حتى اليوم في الأيام القليلة التالية بعث نيتشه بمجموعة رسائل قصيرة عرفت فيما بعد باسم رسائل الجنون إلى عدد من الأصدقاء من ضمنهم ياكوب بوركهارت وزوجة ريتشارد فاغنر، بعضها ذيلت بتوقيع ديونيسيوس وبعضها عليها توقيع المصلوب بعد رؤية تلك الرسائل، تنبه أصدقاؤه وأمه، فأرسل إلى مستشفى الأمراض النفسية.
في لحظات معينة كان يظن نفسه شكسبير أو قيصر أو ملك إيطاليا أو فاغنر أو يسوع ونابليون وبوذا و الإسكندر المقدوني، وفي السادس من يناير 1889 أطلع بوركهارت صديقه فرانز أوفر بيك على رسالة نيتشه، وفي اليوم التالي استلم أوفير بيك رسالة مماثلة من نيتشه، قرر أصدقاء ناتاشا أن عليهم إحضاره إلى بازل، فسافر أوفر بيك إلى تورينو وأتى نيتشه وعرضه على عيادة نفسية في بازل، مع مرور الوقت اتضح أن نيتشه كان يعاني مرضا عقليا خطيرا، فقررت والدته نقله إلى المستشفى تحت إشراف طبيب النفس والأعصاب السويسري أوتو لانغر، في ذلك الشهر يناير 1889 تم نشر كتاب نيتشه الذي كان جاهزا أفول الأصنام بين نوفمبر 1889 وفبراير 1890 حاول المؤرخ يوليوس علاج نيتشه بنفسه مدعيا بأن أساليب الأطباء كانت غير فعالة في علاج حالة نيتشه لكنه فشل حيث وكانت والدة يوليوس قد تعرضت لمرض مماثل.
الأيام الأخيرة ل نيتشه
في مارس 1890 أخرجت أم نيتشه ابنها من المستشفى، وفي مايو جلبته إلى منزلها في هامبورغ كان نيتشه حتى ذلك الوقت يستطيع إجراء بعض المحادثات القصيرة، وخلال تلك الفترة كانا صديقيه إتش أوفر بيك وبيتر يفكران فيما يجب القيام به بأعمال نيتشه غير المنشورة، فطبعا كتاب نيتشه ضد فاغنر في طبعة محدودة بخمسين نسخة، وقررا عدم نشر كتابي المسيح الدجال بسبب محتواه الراديكالي، وفي ذلك الوقت بالذات بدأت أعمال نيتشه تلقى الاهتمام والاعتراف لأول مرة، في سنة 1893 عادت أخت نيتشه إليزابيث من الباراغواي بعد انتحار زوجها، قرأت إليزابيث ودرست كل أعمال نيتشه، وتولت من ذلك الوقت العناية بها ونشرها، فأسست عام 1894 أرشيف نيتشه.
بعد وفاة والدته في سنة 1897 نقل نيتشه للإقامة في فايمار حيث تقيم أخته إليزابيث التي تولت رعايته وسمحت بمجيء الزوار له، وكان منهم رودولف شتاينر الذي ألّف عام 1895 واحدا من أوائل الكتب التي تشيد بنيته، وقد استعانت إليزابيث ب شتاينر لفترة لمساعدتها على فهم فلسفة شقيقها.
نيتشه يصبح مجنونا بسبب فلسفته وفكره
تم تشخيص مرض نيتشه في الأصل بأنه ناتج عن تفاقم مرض الزهري وفقا لرؤية الطبية السائدة في ذلك الوقت، يرى معظم المعلقين أن انهياره العقلي ليس له علاقة بفلسفته، إلا أن جورج باتاي ألمح إلى عكس ذلك، وكذلك التحليل النفسي الذي أجراه الفيلسوف الفرنسي رينيه جيرار الذي رأى فيه أن السبب هو خصومة نيتشه مع ريتشارد فاغنر، ومنذ ذلك الحين ظهرت تحليلات عديدة عن سبب الانهيار، منها تشخيص حدوث مرض الهوس الاكتئابي، ثم الذهان يليه الخرف الوعائي.
موت نيتشه وهو مصر على الالحاد
بين سنتي 1898 و 1899 تعرض نيتشه مرتين على الأقل للسكتة الدماغية التي سببت له شللا جزئيا جعله غير قادر على الكلام أو المشي، بحلول سنة 1899 تعرض للشلل النصفي سريري في الجانب الأيسر من جسده بعد إصابته بالتهاب رئوي منتصف شهر أغسطس عام 1900، تعرض ليلة الخامس والعشرين من أغسطس لسكتة دماغية أخيرة، وتوفي ظهر اليوم التالي عن عمر يناهز الستة وخمسين عاما، وطلب من أخته أن لا يصلي عليه القساوسة، فكان يريد أن يدفن ملحدا شريفا، لكن هذه الوصية لم تنفذ ودفنته إليزابيث بجانب والده في كنيسة في لودج، وألقى صديقه وسكرتيره بيتر غاس كلمة التأبين في جنازته معلنا سيكون اسمك المقدس لجميع الأجيال القادمة لتنتهي بذلك حياة الفيلسوف فيلسوف الإلحاد.