كتاب رسائل من تحت الأرض | فيودور دوستويفسكي

صدر كتاب رسائل من تحت الأرض في عام 1864م وكان له تأثير كبير في ترسيخ الفكر الوجودي الذي بدأه كيركجارد واستكمل لاحقا من قبل كل من نيتشه و دوستويفسكي، وكان هذا العمل بمثابة رد على رواية نيكولاي تشاوشيسكو في ماذا يجب أن نعمل؟ والذي ذكر فيه المؤلف أن بالإمكان الوصول إلى الكمال فيما أسماها الأنانية العقلانية، حيث يدعي أن العقلانية تأتي فقط من اهتمام المرء بمصالحه الشخصية، وهي المحرك التاريخي الذي يساعد التجمعات البشرية على الاستمرار والبقاء.

 ومن الصحيح أن دوستويفسكي يعتبر فيلسوف في المقام الأول إلا أنه يعرف روائيا أكثر بالنسبة للعامة، ولعل روائعه الأدبية لها صدى ما زال يسمع حتى بعد أكثر من قرن ونصف من نشرها، لأنها من الكلاسيكيات التي أصابت في مجالين المتعة أثناء القراءة وكذلك عمق الأفكار المطروحة فيها.

ملخص كتاب رسائل من تحت الأرض

 ينقسم كتاب رسائل من تحت الأرض إلى قسمين الأول والذي أطلق عليه تحت الأرض والذي هو أقل من النصف، ويحتوي على معظم الأفكار الفلسفية التي يريد دوستويفسكي طرحها، والقسم الثاني أطلق عليه حول الثلج المبتل ويتضمن تفسيرات للقسم الأول وكذلك تجارب بطل القصة الاجتماعية خلال عشرين سنة التي سبقت، المواضيع التي يناقشها هذا الكتاب هي حول المشاعر السلبية والحرية والوعي والعقلانية؛ الشخصية الرئيسية هي رجل ليس له اسم وهو من نسج الخيال، يعرف ببساطة بالرجل من تحت الأرض، والكتاب بشكل عام هو مذكراته حول أعمق أفكاره وأكثرها ظلمة وما يريد أن يوضحه لنا صراعه الداخلي الوجودي وإغلاقه على مشاعره الداخلية والتي تؤذيه أكثر مما تؤذي الاخرين.

الخيال العدواني

 في الفقرة الأولى من كتاب رسائل من تحت الأرض يتحدث المعلق عن الحقد الذي في داخله والذي يعتبره دوستويفسكي مواجهة وجودية للواقع، ولاحقا نجده يتكلم عن موضوع الوعي ومقارنته مع الوعي الجماعي للمجتمع الذي يعيش فيه، الحقد وهو أحد المحاور الرئيسية في القصة وأول شيء يقدمه عن نفسه هو أحد تلك الطباع التي تبدو سيئة لكنها تعبر عن الجانب المتمرد في الإنسان، تمرده على المجتمع الذي يأمره أن يكون لطيفا ومطيعا ومتفائلا وسعيدا، المجتمع الذي لا يحترم الإنسان بل يحترم الأفكار البالية لذلك تجده يحتقر الأخرين ويستمتع بإذلال المقابل.

 والخطير في الموضوع أنه يحتقر نفسه إلى حد ما، أيضا هذا النوع من السرد القصصي يسمى الخيال العدواني والذي يهتم بمواجهة الفرد للمجتمع، حيث يقارن نفسه مع الأناس الذين يبدون على أنهم معتادين أو كما سماهم رجال الأفعال الذين طاقاتهم ووعيهم واضحة للعيان، لكنهم يمتلكون مستوى تفكير سطحي جدا، ولذلك رجل تحت الأرض يتمزق في تناقض يعيشه ، فمن ناحية يحسد رجال الأفعال على إيجابيتهم وبساطة واقعهم، إلا أنه من ناحية أخرى يرى نفسه متفوقا في ذكائه ومستواه العقلي مقارنة برجال الأفعال، يمكن أن نقرب هذه الأفكار مع أخرى مشابهة لنيتشه مقارنة السيد بالعبد، نستطيع أن نقول أن مجمل رسائل من تحت الأرض هو التناقض بين تفوقه العقلي وتعاسة حالته النفسية مع ما يراه في الأخرين.

 فهو يتساءل كثيرا حول ما يفكر به الأخرون والمرح والضحكات التي يسمعها منهم، لماذا هو مختلف؟ لماذا هو تعيس؟ لكنه يوضح لاحقا اكتشافه أنه يتعذب في هذا الواقع بسبب الجحيم الذي خلقه لنفسه، فهو لم يحظ بما يستحق بالرغم من تفوقه فنجد في هذا إحدى أهم وأشهر الجمل الفلسفية، أقسم لكم أيها السادة إن الإفراط في الوعي هو مرض مرض حقيقي ومؤلم، فهو ينظر إلى الحياة من وجهة نظره المتفوقة والتي أدت به إلى جنون الشك والاضطهاد واحتقار الناجحين، وهذه تترجم إلى الحكم الأخلاقي الهرمي.

الحرية هي الجنون

 يبحث دوستويفسكي في كتاب رسائل من تحت الأرض عن موضوع الحرية وعلاقته بالسعادة، ويصف لنا في البداية كيف أن الحرية هي وهم، حيث يعتبر دوستويفسكي أن من الخطأ اعتبار الحياة هي مجرد السعي وراء السعادة ربما ستستغرب من هذا الكلام، لكن سنوضح لك لماذا هذا الاعتقاد خاطئ ؟ لأن كل ما نعمله هو فقط لزيادة السعادة والمتعة، ألسنا في هذه الحالة رهن رغبات النفس وليس العقل؟ فمثلا هناك من يحب الأطعمة الحلوة المذاق ماذا تتوقع أنه سيشتري؟ بالطبع كل أكلة لها محتوى عالي من السكر، قارن هذا مع شخص أخر يحب الأطعمة المملحة، أمثاله لا يميلون سوى لشراء الأطعمة المالحة، كل منهما يعتقد أنه حر في ما يشتريه، ولا يعلم أن النفس هي التي قادته إلى الاختيار.

 لذلك يقول دوستويفسكي أننا لكي نكون أحرارا علينا خوض التجربة جيدها وسيئها وليس فقط تلك التي تحصر في تحصيل السعادة.، بالنسبة للمثال السابق، فالأمر في اختيار الطعام ليس أكثر من حتمية ميكانيكية للمتعة يشابهها دوستويفسكي بالأرق ذو الصمامات والمكائن المعقدة، أو في أفضل الأحوال هي مجرد نفعية تحوم حول السعادة، ليس هذا فقط فنحن نتخذ قرارات قد تبدو مؤلمة أو صعبة، لكنها تصب في النهاية في المصلحة الشخصية، مثلا أن أجتهد في الدراسة لكي أحصل على شهادة أو أن أرهق نفسي في التمارين الرياضية لكي أحصل على جسم رياضي رشيق هذه أيضا تصب في مجال المصلحة أو زيادة السعادة.

كتاب رسائل من تحت الأرض

الحرية الحقيقية هي تلك القرارات المتحررة من عواقب أو مضمون شخصي، والتي هي أقرب إلى نزوة أو تقلب في الرأي يراها البعض أقرب إلى الجنون، لكن دوستويفسكي يراها على أنها الحرية الحقيقية لأنها متحررة من أي قيود أو اعتبارات ومستقلة عن الآراء، هذا الكلام قد يبدو غريبا لك ومن الصعب هضمه فمن غير المعقول اختيار الأمور السيئة أو التي لا تصب في مصلحتنا، لكن دوستويفسكي يسميها الأفضلية الأكثر أفضلية، أو بمعنى أخر تلك القرارات التي تكون سيئة هي في الواقع الأكثر فائدة لنا لأنها تبين لنا أننا أحرار بحق.

 ربما نجد في نظرية الظل لكارل يونج أو نظرية سانتوس لفرويد أمورا مشابهة، إلا أن هؤلاء اعتبروا هذه الحالة مرضا نفسيا، أما بالنسبة لحرية دوستويفسكي العشوائية فهي علاج للمشاكل والعقد النفسية، كلنا مررنا في لحظة نتمنى لو صارعنا الواقف أمامنا أو نحطم الأشياء في المنزل بدون سبب، مثل هذه الانفعالات يراها دوستويفسكي إحدى أكثر تجليات الطبيعة البشرية، أو أننا نكون أكثر إنسانية حين نتصرف بعفوية لأنها المتنفس الذي نتخلص من خلاله من كم الهموم التي نحملها أو المهرب الذي يجده البعض مفرغ الأعباء التي يحمل الشخص من الالتزامات الاجتماعية والتقيد بالعادات.

المعاناة مهمة

أليس الإنسان يفضل أحيانا التعاسة مثلها مثل السعادة؟ ربما التعاسة مفيدة له بقدر السعادة، الإنسان يتعلق بشغفه وجنونه بمعاناته وهذه حقيقة، لا داعي لمراجعة التاريخ لإثبات وجهة النظر هذه، نظرة دوستيوفسكي لعصر التنوير مفادها أن المنطق وحده يكفي للوصول إلى السعادة، فمنذ قديم الزمان وابتداء أفلاطون في ذكره عن المدينة الفاضلة أو أرسطو في فكرة الديو دايموند، ولاحقا زعم كانط حول اعتبار الإنسان مخلوق منطقيا، ولكن أهمهم كان هيغل الذي قال أن البشرية تتجه تدريجيا نحو العقلانية والحرية، هذا ليس أكثر من خرافات بالنسبة للمفكرين اللاحقين أمثال دوستويفسكي في عصر ما بعد الحداثة.

 من خلال بحث تجارب السابقين أدرك المفكرون استحالة الوصول إلى السعادة، بل كل ما نتقدم في مجال نسقط في نزيف المشاكل وتطرأ لنا أخرى جديدة، فيرد على هيغل إذا كانت هناك حرية لماذا نجبر إذا إلى توجه نحو العقلانية؟ ألا تتضمن الحرية أيضا إنكار العقلانية؟ فيرى دستويفسكي في كلام هيجل تناقضا في حد ذاته، فهو ينتقد هذه المنهجية ويتهمها كما قلنا على أنها حتمية، مثلما أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة، فلا توجد حرية في هذا لكن لا إنكار في أن هناك نقلة نوعية في مستوى المعيشة في زماننا مقارنة بالقرون السابقة، فمجرد التهاب بسيط كان يقتلك في الماضي، لكن الأن من السهل علاج الأمراض، لكن السعادة لم تأت مع التنوير ، كما أنه لم تتحقق أمنيات العقلانيين فهي ليست أفضل من حلم طفل بمدينة كلها من الحلوى، الحياة ليست كذلك لأن أغلب المصائب والمسبب الأول لها هو الإنسان نفسه، وهذا ينطبق على المستوى الفردي والجماعي.

كتاب رسائل من تحت الأرض

 الحياة لم تكن أبدا تتمحور حول السعادة بل في خوض تجاربها وتقلباتها وردود فعلنا تجاه كل ظرف فيها ، تجاهلنا للمآسي والأحزان والمصاعب لا يعني أنها لن تأتي إلينا أبدا، بل سنكون ضعيفين أمامها وسننتصر بالواقع، لذلك يدعي دوستويفسكي أن أكبر كذبة تربينا عليها منذ الصغر هي السعي للوصول إلى السعادة، فبمجرد حصر تفكيرك في سبل الوصول إليها يجعل منك شخصا محدود الفكر ضعيف البصيرة وفي هذا الصدد لا يقصد دوستويفسكي أن نضع أيدينا في النار، أو أن نمشي حفاة على زجاج مكسور لكي نعرف أننا أحرار، يريد منا ما هو أعمق بكثير “التفكر في الحياة”، وأن لا نكون عبيدا نلهث وراء السراب كأن نعمل عملا نحتقر به لكي نشتري أشياء لا نحتاجها وهو الفخ الذي يتربى عليه الإنسان الحديث منذ ولادته؛ هذا هو أحد أخطر أنواع الاستعباد في العصر الحديث.

هو يريدنا أن نتفكر في حياتنا ماذا أصبحنا وماذا نريد أن نكون فأبلغ الدروس التي نتعلمها هي التي تأتي من هفواتنا أو أخطائنا وليس من نجاحاتنا، وإذا كان كل تركيزنا يدور حول مسعى واحد السعادة عندها من الصعب أن نتعلم شيئا ذا قيمة.

التعبير

 هناك جانب أخر لهذا العمل إمكانية التعبير عن النفس، وهو غالبا ما تحاول العديد من الجهات التربوية والاجتماعية كبتها في الإنسان، ألا ترى أنه من الصعب أن لا تتمكن من البوح بما في داخلك؟ ألا يحق لك أن تشتكي ؟ دائما عليك تتصف بما يريده الأخرون منك، يجب أن ترى كل شيء براقا لا يجوز أن تتكلم خارج الحدود لا يحق لك التعبير عما يجول في خاطرك، لا تظهر للأخرين ضعفك، كن دائما متفائلا، كن سعيدا حتى لو لم تكن كذلك، هذا بالنسبة ل دوستويفسكي هو ازدواجية ونوع أخر من الجحيم الاجتماعي الذي يفرض عليك دون أن تدري والذي من خلال بطل القصة يوضح أن ملاذه الوحيد كان في كتابة مذكراته.

خلاصة القصة | كتاب رسائل من تحت الأرض

 هي محاولة دوستويفسكي عرض قضية الأزمة الوجودية في شخصية رجل تحت الأرض، والذي تتجسد فيه كل المتناقضات وتملكه مشاعر متضاربة، فهو يحب العزلة لكنه يستمتع في العلاقات الإنسانية، يحسد رجال الأفعال لكنه في نفسه يسخر من غبائهم وسطحية، يعيش حياة المعاناة ولكنه يتلذذ بشكل أو بأخر بهذا العذاب، ستجد في بطل القصة الانغماس في ( الرذيلة، الحقد، الحسد، العبثية، التهور، الأنانية، التبجح، الوقاحة، السادية، الجبن، التلاعب، نكران الجميل، الكسل، العناد، التقلب، الكذب ، الطغيان ) ؛ كل هذه الخصال ستجدها في بطل القصة، لكنه أيضا يحمل عكسها في نفس الوقت لأنه صاحب وعي يعرض لك أعمق أفكاره ولم ينكرها مثلما ننكرها نحن في حياتنا الاعتيادية.

 اعتدنا في قراءة القصص أن يكون البطل شخصا طيبا لكن دوستويفسكي بهذه الحبكة القصصية يريد أن يعطيك الاختيار، فبطل القصة هنا هو مجرد إنسان ربما ستراه شريرا أو مجرد شخص مسكين يحاول أن يجد نفسه في صراع الحياة، الأمر مناط بك في كيفية تقييمك له فهل تحكم عليه بسبب أفعاله أو مشاعره أم أنك ستحاول فهم موقفه والأسباب التي دفعته ليكون هكذا؟ صحيح أنه مجرد شخصية خيالية، وأن هناك الكثير من الدراما والمبالغة في هذه القصة، إلا أن ما ذكر من صفات وصراعات نفسية نجد أجزاء منها في كل إنسان على وجه الأرض، لذلك يعتبر هذا العمل أول الأعمال المتخصصة في علم النفس وربما أكثرها أهمية.

مقتطفات جميلة من كتاب رسائل من تحت الأرض

“أنا إنسان مريض إنسان حقود إنسان ممقوت أعتقد أن هناك خطب ما في كبدي لكنني لا أعرف شيئا عن مرضي، فلم يصادف أن استشرت طبيبا لم يحدث هذا قط، لذلك لا أعرف ما هي علتي، رغم أنني أحترم الأطباء والعقاقير إلا أنني أؤمن بالخرافات، أنا مثقف بما يكفي لكي لا أؤمن بالخرافات إلا أنني كذلك، لا أظنك ستفهم هذا الأمر لكنني أفهمه جيدا، أرفض أن أعالج كبدي بسبب الحقد، طابع لا أستطيع إيضاح من الذي أريد إذلاله بحقدي، فأنا لا أستطيع إيذاء الطبيب بعد استشارته، وأدرك جيدا أنني أؤذي نفسي فقط ولا أحد أخر، مع ذلك أرفض العلاج بسبب الحقد، هناك خطب ما في كبدي. حسنا إذا دعه يسوء أكثر”.

“لم أستطع أن أكون أي شيء، لم أستطع أن أكون حقود ولا طيب القلب، لم أستطع أن أكون مذلا أو أمينا ولا بطلا ولا حتى أن أكون حشرة، إنني أهين نفسي بمأساة حاقدة غير مجدية تتمثل في قولي أن الذكي لا يمكن أن يكون شيئا خطيرا، وأن الأحمق وحده يمكن أن يكون أي شيء”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى