فيودور دوستويفسكي الروسي الذي أحب الإسلام وكره العثمانيين | ملحد أم متدين
ولد فيودور ميهايلوفيتش دوستويفسكي بموسكو في 11 من نوفمبر سنة 1821م ومات بسان بطرسبرغ في 9 من فبراير سنة 1881م، ولعل الظروف التي رأى فيها النور كانت جديرة بأن تعده رمزا، فلقد جاء إلى هذا العالم في مسكن صغير بمستشفى “ماريم” الذي كان أبوه يعمل فيه طبيبا، فكأن القدر قد أراد له منذ أن خطا في الحياة أولى خطواته أن يكون مكانه بين الفقراء والمرضى والمعذبين، لقد فتح عينيه على عالم لا فرح فيه ولا بهجة في جو تملؤه رائحة الأدوية، وكانت أمه امرأة حزينة قلقة متطايرة تضمها الهواجس، وكان أبوه مستبدا طاغية شرس الطبع قاسيا خشنا بخيلا شحيحا يفرض سلطانه على من في المنزل باللسان والصياح الخانق، ولا ينأى أن يتذمر من كثرة النفقات مرددا على مسامع أفراد الأسرة أنهم أناس فقراء فعليهم أن يقتصدوا ما أمكن.
وكان على الصبي دوستويفسكي أن يخطو خطواته الأولى في التعلم والدراسة خاضعا لهذا الأب قارئا عليه ومتعلم منه، فكان يكرهه في سره وكانت صرخات الأب الغاضب تلاحقه حتى في أحلامه، ولعل الصبي كان يتمنى لأبيه الموت في دواخل نفسه على غير شعور منه، ولكن الأب كان في مقابل ذلك على جانب من الثقافة، فكان يحلو له أن يقرأ لأولاده صفحات من أثار بوشكين خاصة، واستطاع الأب بالتوفير والاقتصاد أن يحقق حلما من أحلامه، فاشترى أرضا بمقاطعة “تولا” مساحتها 500 هكتار وأقنانها 80، فكانت أيام الإجازات التي تقضيها الأسرة بالريف تشكل سعادة كبرى للأولاد هناك. هناك تعلم فيودور حب الفلاحين والأرض وبقيت له من ذلك ذكرى مضيئة أودعها في قصته القصيرة الفلاح ملاي.
تعلم فيودور
في سنة 1833م أدخل الأب فيودور وأخيه ميتشيل وهما أكبر أولاد الطبيب إلى معلم فرنسي اسمه جون شار، ثم عهد بهما بعد سنة من ذلك إلى مدرسة داخلية يديرها رجل تشيكي اسمه شيرمان، وهي مدرسة يسودها جو عائلي وتدرس فيها اللغة والأدب، فكان “شيلر” و”والتر” و”سكوت ديكنز” هم الكتاب الأثيريين على قلب فيديا (فيودور) خلال تلك الفترة، حتى لقد أخذ ينظم أبياتا من الشعر سرا في أثناء ذلك، فلما جاء الصيف من عام 1836م مرضت أم دوستويفسكي مرضا خطيرا فماتت بالسل في 27 من شهر شباط فبراير سنة 1837م بعد مقتل الشاعر الكبير بوشكين بشهر واحد، فكان للحدثين أثر عميق في نفس الفتى دوستويفسكي الذي كان يحب أمه حبا رقيقا حنونا، وكان يعبد الشاعر العظيم عبادة.
كذلك تحطم العش العائلي بوفاة الأم وانحدر الأب إلى هوة اليأس وأدمن على الشراب وأخذ يفكر في ترك عمله والاعتكاف بعيدا في أرضه، وما هي إلا فترة قصيرة حتى أرسل ابنه إلى سان بطرسبرغ ليلتحق بمدرسة الهندسة الحربية فأما فيودور فقد نجح في امتحان القبول بعد الاستعداد له لمدة ستة أشهر، وأما أخوه ميتشال فلم يفلح بسبب سوء صحته، فمضى إلى ريفيل لملحقة تتبع لمدرسة الهندسة الحربية، فالفتى دوستويفسكي الذي لم يتجاوز السادسة عشر من عمره عاش وحيدا في مدرسة عسكرية داخلية تفرض عليه حياة قاسية لا يطيقها مزاجه الفني، ويلزمه بدراسة صعبة لا تتفق مع أذواقه الأدبية.
كان الفتى يكد في دراسته ولكن عالم الفنون ظل هو العالم الذي يخلو إليه سرا، وها هو ذا يكتب إلى أخيه قائلا “الحياة هنا كريهة مقيتة لا جمال عندي إلا فيما هو مبرأ من إسفاف المادة وسعادة الأرض”، وقد كون حلقة من الرفاق المهتمين بالشعر والأدب، واهتم بقراءة كتب” شيلر” و “هوفمان” و”بال زاك” و”جورج ساند” و”فيكتور هوغو”.
صداقات دوستيوفسكي
انعقدت أواصر صداقة بينه وبين غريغورفيتش الذي سيصبح كاتبا شهيرا، وأنشأ صداقة أخرى بينه وبين موظف شاب اسمه إيفان نوفيتسكي وهو شاعر مثالي كان عاكفا على كتابة تاريخ للكنيسة.
مقتل والده
وفي أثناء ذلك أحال والد دوستويفسكي نفسه على التقاعد ومضى يعتكف في أرضه مع ابنتيه الصغيرتين إحداهما في الثامنة والأخرى في الثانية، واستمر الأرمل المعتزل يدمن هناك على الشراب إلى أن غدى من ذلك صاحب هواجس وهذيان، فما ان انقضت سنتان حتى وجد مقتولا في الحقول عام 1839م قد أجهز عليه نفر من الفلاحين كان يهددهم بجلدهم بالسياط، وكتمت الفضيحة فلم يعاقب الجناة، فهذه إذن مأساة أخرى هزت نفس الفتى هزا قويا، صحيح أنه كان لا يطيق إسراف أبيه في الشراب وإمعانا في الفجور، وكان يأخذ عليه خشونته وقسوته وجبروته وكان يمقت فيه ببخله وشحه خاصة.
صحيح أن الفتى كان يحقد على أبيه لهذه الأسباب كلها، وأن الرسائل التي كانا يتبادلان بها كانت تفيض مرارة وعنفا، وأنه كان في دواخل نفسه يكرهه حقا، ولكن هذا بعينه هو ما هز نفس الشاب هزا قويا، فلقد أحس حين قتل أباه أنه كان مجرما في حق أبيه.
تخرج فيودور دوستويفسكي
قضى دوستويفسكي أربع سنين ونصف في مدرسة الهندسة، وتخرج بعدها مهندسا برتبة ملازم ثان في صيف عام 1842م، فالتحق بمكتب المهندسين في دائرة الهندسة بالعاصمة، وأصاب المهندس الشاب حظا من الثروة وكان صهره زوج أخته الكبرى الوصي على الأسرة يمده بشيء من المال من حين إلى حين، ولكن الضابط الشاب كان مبدرا متلهف حيث يتعاطى القمار فيخسر مبالغ طائلة، ويستدين تارة ويسرق تارة أخرى، فما يشارف الشهر على نهايته إلا ويكون خالي الوفاض لا يجد ما يبتلعه، ويتردد على منازل مشبوهة قذرة يعقد فيها صلات مع سكارى الضائعين، ولكن شغفه بالأدب وانصرافه إليه ازداد أثناء ذلك يوما بعد يوم، حتى لقد كتب مسرحيتين لم تصل إلينا منذ أن كان طالبا في مدرسة الهندسة.
بداية فيودور دوستويفسكي في الأدب
ضاق دوستويفسكي ذرعا بعمله كضابط مهندس فقرر عام 1844م أن يستقيل رغم أنه مثقل بالديون، وفي ذلك الأوان التقى برفيقه القديم غريغوري فيتش، الذي كان قد بدأ حياته الأدبية كاتبا واقعيا ناجحا، استأجر الصديقان منزلا أقام فيه معا، وفي ذلك المنزل إنما بدأ دوستويفسكي يكتب رواياته الأولى الفقراء على غير علم من صديقه، يعمل ليل نهار بحماسة شديدة واندفاع عظيم، إلى أن فرغ منها في ذات مساء من شهر أيار مايو سنة 1845م، فنادى صديقه وأطلعه على سره وأخذ يقرأ له روايته، ظل دوستويفسكي يقرأ في نشوة نماذجها خشية عظيمة، وظل غريغوري فيتش يصغي في إعجاب يبلغ حد الذهول إلى أن فرغ من القراءة في ساعة متأخرة من الليل.
فاستولى غريغوري فيتش على المخطوطة وحملها في الغد إلى “نكراسوف” الشاعر الوطني الذي يتمتع بفكر عملي والذي كان قد أصبح مدير مجلة، لبت غريغوريفيتش الليل كله يقرأ الرواية على نكراسوف فلما انتهى الكاتبان من قراءتها في نحو الساعة الرابعة من الفجر، كان قد بلغ ذروة الحماسة، فقام يقرع باب دوستويفسكي في تلك الساعة ويوقظانه من نومه ليخبرنا دوستويفسكي أن تلك اللحظة كانت أجمل لحظة في حياته لم تبارح ذكراها خياله.
بعد ثلاثة أيام ذهب دوستويفسكي إلى الناقد الشهير بيلينسكي الذي كان قد تلقى المخطوطة متحمسا فقال له أنت تفهم أيها الشاب ماذا كتبت كان يرى في هذه الرواية أول محاولة في كتابة رواية اجتماعية، محاولة لا يقدر عليها ولا ينجح فيها إلا فنان، أي إنسان لا يشعر بما سينشأ عنها ويترتب عليها، ومنذ تلك اللحظة وحتى قبل أن تنشر الرواية طار صيت دوستويفسكي وذاعت شهرته في الأوساط الأدبية، وأصبحت تبحث عنه وتسعى إليه كل الألسنة فيتلقى دوستويفسكي من المديح الذي يقال له بغير حساب.
الفشل الأدبي
سقط نجاح فيودور بعد ظهور روايته الثانية المثل، فلم تصيب هذه الرواية الثانية ما أصابته الرواية الأولى من نجاح، فيسارع ليكتب أعمالا أخرى ولكنه يسرف في التعجل فينشر “الجارة أقاصيص أخرى” تخيب ظن بيلينسكي وتخيب ظن أنصاره في ظهور أدب اجتماعي يتجه إلى الشعب ويفيد المجتمع، وأخذ الأدباء الذين احتفوا به أشد الاحتفاء في الصالونات الأدبية أخذوا يتندرون عليه ويسخرون من ظهوره ويضحكون على براعته ويستمتعون بسقوط موهبته.
يصاب فيودور بالضجر والسأم والملل وتتكاثر ديونه وتتراكم ويشرد يتنقل من مسكن إلى مسكن، ويبدل أصدقاءه واحدا بعد الأخر وتنتابه أهوال غيبية ومخاوف غريبة، ويخشى أن يفقد صوابه وأن ينتهي إلى الجنون وتأخذ نوبات الصرع توافقه منذ ذلك الحين، وكان قد صار إلى الإلحاد بتأثير صديقه بيلينسكي.
فيودور دوستويفسكي على منصة المشنقة
حاول فيودور أن يسري عن نفسه بالاختلاف الاجتماعي بجلسات الجمعة التي كان ينظمها باتراتشكي فيتسكي الموظف الشاب بوزارة الخارجية، وهو رجل مثقف كان يجمع أصدقائه ليتحدث في السياسة والاشتراكية وهم يحتسون الشاي ويدخنون الغيلان ويقرأون كتبا قد منعت الرقابة تداولها، على هذا انقضت سنة 1848م كلها من حياة دوستويفسكي.
في هذا الوقت كان الحكم الملكي في ألمانيا والنمسا والمجر يتداعى بسبب الثورات التي تنادي بإقامة جمهوريات، فيقرر نيكولا الأول أن يتدخل في المجر دعما لعرش فرانسوا جوزيف الذي أخذ يترنح أوشك أن يتداعى، وفي هذه الأثناء كان هناك جاسوس اسمه أنتوني يشي بحلقة باتراتشكي فيتسكي ، واصفا أعضاءها بأنهم شيوعيون يحلمون بإقامة مجتمع اشتراكي كالذي نادى به فورييه، وبأنهم أناس مهووسون وبأنهم أقاموا حفلة عشاء تكريما للاشتراكي فوريه، فيقرر نيكولا الأول أن القضية خطيرة جدا وبأنها جريمة لا تغتفر، فيجب أن تظل الإمبراطورية الروسية صخرة لا تتزعزع ولا تتكسر عليها أمواج الثورة التي في الغرب، ولا بد إذا من إنزال العقوبة على هؤلاء المجانين الذين يتحدثون عن ثورة تقوم في روسيا.
فلما جاء فجر ليلة 22 من نيسان أبريل سنة 1849م قرع باب منزل دوستويفسكي من جديد، ولكن القارعة ليس رسولا يحمل إليه نبوءة المجد والشهرة، بل نفر من رجال الدرك يقصدونه مكبلا بالأغلال إلى قلعة ‘بتروفيتش كايا القديس بطرس وبول’، لقد اقتيد إلى هذه القلعة ثلاثة وأربعون شخصا وضعوا في زنزانات منفردة وانقضت على سجنهم هناك ثمانية أشهر قاسية لم يسمح للسجناء خلالها بالقراءة والكتابة إلا في شهر تموز يوليو، وعندئذ كتب دوستويفسكي قصته المشرقة الوضاءة البطل الصغير، ولم يمثل دوستويفسكي أمام المحكمة إلا في تشرين الأول أكتوبر وكانت التهمة الموجهة إليه أنه قرأ على جمهور من الناس الرسالة الحادة العنيفة التي وجهها بيلينسكي إلى غوغول، وفيها يشتم الكنيسة الأرثوذكسية والسلطة العليا، وأنه حضر قراءة قصة جندي وهي قصة تدعو إلى الثورة وعلى العصيان والتمرد.
المشنقة
وفي 19 من تشرين الثاني نوفمبر أصدر المجلس العام حكمه بالإعدام على اثنين وعشرين شخصا على رأسهم بيلينسكي وفيدور دوستويفسكي ، وقرر الإفراج عن الأخرين ولكن الحكم يقترح تخفيف هذه العقوبة وإبدالها بعقوبة الأشغال الشاقة، وقد وافق نيكولا الأول على هذا الاقتراح وعرض على الإمبراطور أن تكون عقوبة دوستويفسكي ثمانية أعوام، فعدل الإمبراطور ذلك الحكم بجعله أربع سنين سجنا وأربعة سنين تجنيد في الجبهة، ولكن القرار ظل سرا مكتوما لم يدع في الناس ولم يطلع عليه أحد، وقد شاء أولو الأمر أن يتسلوا بتمثيل مسرحية هزلية أبطالها بل قل ضحاياها هؤلاء الأشقياء الذين صدر الحكم بإعدامهم السجناء لا يعرفون عن مصيرهم شيئا، وها هم يقظونهم من نومهم في صباح 22 من شهر كانون الأول ديسمبر، فيقدمون بعربات إلى ميدان سيمون أوف سكاي، ويتجلى عليهم هناك قرار المحكمة بإنزال عقوبة الموت فيهم.
صعق فيودور دوستويفسكي ورفاقه لهذه العقوبة التي ليس لها ما يصوغها، وقام الجلادون فشدوا ثلاثة من المحكوم عليهم إلى أعمدة أحكموا ربطهم بها، واصطفت أمامهم مفرزة من الجنود سددت بنادقها إلى صدورهم تأهبت إلى إطلاق النار، وهناك يصل أحد الضباط مسرعا يتلو القرار الجديد يبدل حكم الإعدام بحكم الأشغال الشاقة رحمة ورأفة من صاحب الجلالة الإمبراطور، لقد أراد نيكولا الأول أن يلقن الشبان الطائشين درسا لن ينسوه، ولقد ظل دوستويفسكي يذكر تلك اللحظات الرهيبة فعلا طوال حياته وقد استحضر صورتها وأفاض في الكلام عليها في كتابه الأبله في ليلة عيد الميلاد من سنة 1840م، أرسل السجناء مكبلي الأرجل بالأغلال إلى سيبيريا، فوصلوا إلى توبوليف بعد 18 يوما من السفر في جو بارد لا يطاق.
معتقل سبيريا
وهناك قابلتهم نسوة ثريات هن من فتيات متطوعات بطلات فأعطيت كل واحد منهم إنجيلا وقليلا من المال، ورحل دوستويفسكي إلى أنساك يقضي في معتقله أربع سنين في صحبة مئات من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وجلهم من القتلة كان الحكم بالإعدام على جناة الحق العام قد ألغي في روسيا منذ سنة 1841م، وكانت الأشغال الشاقة تقضي بالمعتقلين لنقل الحجارة وأن يسحقوا الصخور وأن يكنسوا الثلج، كان فيدور لا يستطيع أن يقرأ أو أن يكتب إلا إذا أصابه مرض فأدخل إلى المستشفى، وقد كان يدعي المرض ليقرأ ويكتب في خفية وفي غفلة من الرقباء حيث أثرت فيه هذه السنين الرهيبة تأثيرا قويا بل بدلته تبديلا عميقا، وقال في ذلك المعتقل قد قتل في نفسي أشياء كثيرة، ولكنه فتح أشياء أخرى، فبعد أن كان اشتراكيا وبعد أن كان ملحدا عاد مسيحيا مؤمنا وفيلسوفا أخلاقيا ينصرف باهتمامه إلى مشكلة الجريمة وإلى الصراع بين الخير والشر في كل نفس إنسانية.
أطلق سراح دوستويفسكي في 25 من شهر شباط فبراير سنة 1854م، وأرسل على مراحل مع أخرين من قدماء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة إلى سيميا باسيفيك التي تبعد على أمسيك بمسافة 700 كيلومتر ليصبح هناك جنديا في لواء على الجبهة.
الرحلة الشاقة مرهقة ولكن الأغلال قد سقطت، فإن دوستويفسكي يتنفس هواء الحرية ويشعر بالسعادة، وبعد سفر دام قرابة الشهر يصل دوستويفسكي إلى تلك المدينة الشرقية التي يدين أهلها بالإسلام ويتناثر فيها موظفون وجنود من الروس هنا وهناك، الخدمة العسكرية قاسية ولكن دوستويفسكي لا يتذمر ولا يشكو، حتى لقد كتب إلى أخيه يقول أنه يستحق ما يعيشه، وبسبب سلوكه الجيد أعطي له سكن في المدينة خارج الثكنة، فها هو ذا يتمتع أخيرا بغرفة له وحده في كوخ بائس تقيم فيه أرملة أحد الجنود، ولكنه يستطيع فيه أن يخلو إلى نفسه وأن يقرأ وأن يكتب على ما يشاء له هواه.
فيودور دوستويفسكي يريد قراءة القرآن
كتب فيدور إلى أخيه قائلا أرسل إلي مجلات أرسل إلي كتب المؤرخين الكلاسيكيين في ترجمة فرنسية والاقتصاديين الجدد وأعباء الكنيسة وتاريخ الكنيسة، أرسل إلي القران وكتبا كنت قد أردت أن أقرأها منذ زمن طويل أرسل إلي كتب هيغل ولاسيما كتابه تاريخ الفلسفة، إن مستقبلي كله رهن بذلك، كان دوستويفسكي يريد أن يتدارك الزمن الذي ضاع في المعتقل وأن يملأ ثغرات ثقافته، ويريد أن يكتب أشياء جادة ذات شأن ولكنه يقول في كثير من المرارة آمل أن يسمح لي بالنشر بعد ستة سنين، ولقد صدقت نبوءته، فما كان أصعب طريق العودة إلى الأدب على الجندي المسكين، غير أن رسولا من السماء قد هبط على هذه المقاطعة النائية بعد ثمانية أشهر، إنه البارون الشاب ألكسندر فرانكل الذي وصل من العاصمة نائبا عاما بمحكمة سميث فيسك.
العفو
وقد زارهم دوستويفسكي قبيل مغادرته للعاصمة وأرسل معه لأخيه رسائل وكتبا، كان البارون قد شهد بالمصادفة غريبة المهزلة التي مثلت في ميدان سميرنوف أعني مهزلة تنفيذ الحكم بالإعدام، وكان قد قرأ مؤلفات دوستويفسكي، فكان لذلك يهتم بمصير الكاتب فما أن وصل إلى سيمي بالا توسك حتى أرسل يستدعيه، فلما قرأ دوستويفسكي رسائل أخيه انفجر باكيا، فإذا بالبالون يشاركه البكاء وتعانق الرجلان وأصبح النائب العام والجاني المحكوم عليه بالأشغال الشاقة صديقين حميمين وفعل جندي كل ما استطاع أن يفعله من أجل أن يحصل للكاتب على العفو كامل.
فقدمه إلى الحاكم العسكري بالمنطقة وأدخله صالونات أخرى، فسرعان ما تلقى الجندي البسيط رتبة صف ضابط، وأصبح يقضي وقته كله حرا طليقا عند فرانكل.
دوستويفسكي يقع في الحب
في الصيف من عام 1855م استأجر فرانكل منزلا ريفيا ذا حديقة على شاطئي خليج قضى فيه الصديقان الصيف كله معا، في تلك الفترة اهتز قلب دوستويفسكي بحبه الأول الكبير وهو حب مرضي مفجع من نوع الحب الذي يحدثنا عنه في روايته، لقد تعرف ب ‘ماريا ‘ وهي امرأة مثقفة أبوها هو ديمتري كونستانس مدير الجمارك في استراخان، كانت ماريا قد تزوجت معلما شابا اسمه إيسي، شاء سوء حظه أن يدمن على الشراب.
انعقدت أواصر الصداقة بين دوستويفسكي وبين السكير المسكين وامرأته الشقية التي شعر نحوها دوستويفسكي بشفقة كبيرة، وها هو ذا يكتب إليها قائلا لقد سلخت خمس سنين من حياتي خارج المجتمع وحيدا ليس لي إنسان أفتح له قلبي، إنك امرأة رائعة إن لك نفسا فذة بين النفوس إنك طيبة كالطفل، لقد كنت لي أختا ودام هذا الحب الذي يشبه أن يكون حبا أخويا سنة بكاملها، ثم لم تلبث الشفقة أن استحالت إلى هوى عارم جامح مستميت واستطاع بعض أصدقاء إيسي أن يحصلوا له على وظيفة صغيرة بمحكمة بمدينة كوزنيتسوف التي تبعد عن سيمي بالاتينات مسافة 700 كيلومتر فقط، مزق قلب دوستويفسكي هذا الفراق تمزقا، ومات إيسي بعد مدة قليلة تاركا لأرملته طفلا في السنة السابعة من عمره.
فيودور دوستويفسكي
فأخذ دوستويفسكي وفرانك يمتدان الأرملة البائسة ببعض المال يرسلونه إليها من حين إلى أخر، ثم عرض عليها دوستويفسكي أن تكون زوجته، فوافقت ماريا رغم أنها لا تشعر بالحب حقا نحو هذا الضابط الصغير ذي الوجه البائس الحزين، ترك البارون فرانكل سيبيريا إلى العاصمة ويبقى دوستويفسكي وحيدا مع حبه المرضي، وظل 10 أشهر يكتب إلى ماريا التي بقيت في كوزين تتلقى رسائل تفيض حبا محموما، وها هي ذي تحدثه في ذات يوم عن معلم شاب اسمه فيدريكو قائلة أنها هائمة بحبه، فيضطرب دوستويفسكي أشد الاضطراب ويسافر إلى كازينو فيسك، ويلتقي ب ماريا وغريمها الشاب، ولا يسع دوستويفسكي إلا أن ينتقم منهم ولكنه يريد أن يظل صديقا وفيا كبطل قصة الليالي البيضاء، ويقوم بمساعدتهم من أجل ماريا وأدخل ابنها إلى مدرسة داخلية.
حياة الرخاء
وفي ظل الأزمة العاطفية التي عانى منها دوستويفسكي يرفع إلى رتبة ملازم ثان في 20 من تشرين الأول أكتوبر من سنة 1856م ويسترد حقوق النبالة، فيتغير بذلك وضعه ويتحسن مركزه ويسافر مرة أخرى إلى كوزينتيسك ويعرض الزواج على ماريا من جديد، وافق ماريا ويتم الزواج فعلا في اليوم السادس من شباط سنة 1857م بتلك المدينة، ويصاب دوستويفسكي بنوبة صرع في طريق عودته مع زوجته، فيكون هذا خيبة له ولها معا، فيعود إلى “سيميبيتالاتينسك” ضابطا ومتزوج وتهيئ له زوجته شيئا من رخاء العيش، فيأخذ يكتب في ساعات فراغه ولكنه لم يحصل على الإذن بنشر أعماله، ويقوم أخوه ميتشيل بطبع قصته البطل الصغير بسان بطرسبرغ، كان دوستويفسكي قد كتب هذه الرواية في السجن عام 1849م، فإذا بالقصة المالحة العذبة ترد الناس في العاصمة إلى دوستويفسكي.
أظهرت مجلتان استعدادهما لنشر رواياته، فيشرع دوستويفسكي بالكتابة ويسرع ويكتب روايتين وهما ستيبان كورفو وسكانها، ويتلقى أثناء ذلك إذنا بالتقاعد والعودة إلى روسيا، ويقال إن في الجنوب عشيق زوجته قد تبعها في عربة أخرى، ويختار دوستويفسكي لإقامته في مدينة سيفر الواقعة على الخط الحديدي بين بيترسبورغ وموسكو، فلا يشعر بالارتياح رغم أن حاكم المقاطعة أحسن استقباله واحتفى به ودعاه إلى صالونه، وينصحه صديقه فرانكل أن يرسل إلى الإمبراطور ألكسندر التماسا بالعفو، فيفعل دوستويفسكي ذلك ويتلقى في شهر تشرين الثاني نوفمبر سنة 1859 الإذن له بدخوله إلى العاصمة وبنشر مؤلفاته، فيذهب إلى بطرسبرغ وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل حياته.
مجلة فيودور دوستويفسكي
قرر دوستويفسكي الذي أحس أنه مؤهل للكتابة الصحفية، أن ينشئ مع أخيه ميتشيل مجلة جديدة يتولى أخوه إدارتها، ويظهر العدد الأول في المجلة وهي مجلة الزمان في كانون الثاني يناير سنة 1861م، أي قبل إعلان تحرير الأقنان بشهر واحد تماما، إن دوستويفسكي هو المدير الأدبي والسياسي للمجلة إذ يعتنق مذهبا ليبراليا وسطيا بين أنصار الغربوالمحافظين، وفي هذه المجلة نشر دوستويفسكي كتابه ‘ممثلون محامون’ الذي كتبه متعجلا ولم يكد ينهيه تماما، وقد أقبل الناس على قراءة الكتاب بنهم شديد، ولكن بعض النقاد وجهوا إليه نقدا قاسيا.
في النصف الثاني من سنة 1861م نشرت المجلة نفسها كتابا باسم ‘ذكريات من منزل الأموات’ فنال الكتاب نجاحا كبيرا، إن اللوحة الصادقة التي يرسمها الكتاب للمعتقل قد هزت ضمائر جميع القراء حتى الذين ينتمون منهم إلى الطبقات العليا، فكان له صدى كبيرا وكان لهذا الصدى فضل في سن قانون الإصلاح القضائي الذي صدر سنة 1864م، ويصبح دوستويفسكي حينها الذي كان سجينا سياسيا أكثر أدباء زمانه حظوة بتأييد النقاد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأكثرهم حظوة حتى بين الشبيبة الثورية التي تزداد حماستها يوما بعد يوم، وتسري في الناس منشورات سرية تمجد قيام جمهورية اجتماعية ديمقراطية روسية.
ولكن دوستويفسكي يستاء من هذا التطرف، ولا يشارك هؤلاء المحرومين أرائهم ويرزقهم العمل الضخم الذي يقوم به كاتبا ومحررا، فتزداد نوبات الصرع التي تنتابه من حين لأخر، فيقرر أن يترك روسية لمدة زمنية ليرتاح فذهب لفرنسا وانجلترا ثم ألمانيا وإيطاليا.
الرحلة
هذه الرحلة التي قام بها دوستويفسكي إلى أوروبا ودامت شهرين، قد أمدت الكاتب بمادة الكتابة، حيث أخرج بعدها مذكرات الشتاء عن مشاعر الصيف الذي تم نشره في مجلته، إن للكتاب نقد حاد لعيوب الحضارة حتى لقد أصبح دوستويفسكي لا يحب سان بطرسبرغ، وقد وصف باريس بأنها مدينة تعيسة تعاسة رهيبة لا يفكر سكانها البرجوازيون إلا بالمال، وحمل من لندن شعور الاشمئزاز فيقول عنها واصفا إنها النظام البرجوازي في ذروته، ولا يرى فيها إلا مئات من البغايا في حي ميكافيلي، والسكان الذين يشبهون أن يكونوا عراة في هوامش جبل، إنه يرى أن أوروبا الغربية قد وصلت بمدينتهم إلى حافة المنحدر، وأنها ونسيانها لله ماضية إلى الأفول.
فليس على روسيا المسيحية أن تتوقع من أوروبا الغربية أي خير، وعليها أن تتبع طريقها الخاص، ويشتد إيمان دوستويفسكي بالأرض وتقوى الأمال التي يعقدها على الفلاح، وإذ ب فيودور ينقد الثورة البولونية، فيصدر وزير الداخلية قرارا بوقف المجلة عن الصدور لقيامها بحملات تناقض أهداف الحكومة، فكان هذا القرار ضربة خطيرة للأخوين دوستويفسكي ضربة أدبية ومالية في أن واحد وكانت حياة دوستويفسكي العاطفية تمر في ذلك الوقت بمنعطف جديد، حيث أن زوجته تمعن في المرض يوما بعد يوم، وإن عصبيتها الهستيرية تتفاقم مزيدا من التفاقم.
علاقة فيودور ب بولين
تظهر في حياة الكاتب طالبة شابة اسمها بولين فتاة تنتمي إلى الجيل الجديد، وتشبه أن تكون بشخصيتها بطلة رواية من رواياته، وهي ابنة رجل غني صاحب مصنع، وكان في الماضي من الأقنان، صبية بارعة الجمال، متسلطة الطبع، شديدة الحماسة، قوية الاندفاع، ملحدة، تعتنق المذهب الفوضوي والعقيدة العدمية، وتدعو إلى الحب الحر الذي لا تقيده أية قيود، ترى في دوستويفسكي كاتبا شهيرا وثوريا قديما، وتصارحه بحبها في رسالة مشبوهة، وتصبح من أعوانه في المجلة لأنها تكتب قصصا، ولكن كان من الطبيعي ألا يمر حب كهذا الحب بين رجل في الأربعين أرهقته المحن وأدناه المرض، وبين فتاة في غداوة الصبا تفيض نشاطا وحركة وتعتقد إقبالا على الحياة، إن الطباع مختلفان اختلافا شديدا، ومع ذلك يقرر دوستويفسكي وبولين أن يسافر معا إلى الخارج في صيف عام 1863م.
ولكن تصفية شؤون المجلة تمنع دوستويفسكي من السفر فورا، فينفذ صبر الفتاة وتسافر وحدها إلى باريس فتمكت فيها خمسة أسابيع ويغادر دوستويفسكي روسيا أخيرا، ولكنه لخلو جيبه من المال يفكر في أن يجني ثروة من القمار.
فلبث في فيسبادن فيكسب مبلغا ضخما بالمقامرة على الروليت، ثم يخسر نصف المبلغ في الغداة ويصل بعد ذلك إلى باريس، ولكن بعد فوات الأوان، كما صرحت له بذلك بولين فور التقائها به، فإن الفتاة الجميلة كانت قد أصبحت خليلة طالب إسباني غني، ويعجز دوستويفسكي عن قطع صلته بها ويعرض عليها أن يساركها حبا أخويا، وذلك دور قد سبق أن قام به وكثيرا ما وصفه في كتبه، ولكن الإسباني ما يلبث أن يهجر بولين، فترد بولين عندئذ وقد سحقها الحزن والألم أن تسافر مع دوستويفسكي إلى إيطاليا، وقد جعلت بينه وبينها مسافة رغم كونهم مسافرين مع بعضهم.
فقرر فيدور العودة إلى بيته ليجد امرأته قد تفاقم مرضها واشتدت غيرتها واحتد هيجانها، وقد أرسلها إلى موسكو حيث المناخ أصح وأسلم ويبقى هو وحيدا.
مجلة
حصل أخوه ميتشيل أثناء ذلك على الإذن بإصدار مجلة جديدة ويسميها العصر، تبدأ بالظهور منذ مطلع سنة 1864م فينشر فيها دوستويفسكي أثرا رائعا بعنوان ‘في قبوي’ يتجاهله النقاد فلا يتحدثون عنه ولا يشيرون إليه وتتكاثر عليه المصائب، فالمجلة تسير متعثرة وأخوه ميتشيل مريض ما ينفك يدمن على الشراب مزيدا من الإدمان، وماريا ديمتري إيفانا تحتضر بموسكو في 15 من نيسان أبريل من سنة 1864م فيسقط دوستويفسكي على سريرها وقد طفحت نفسه ندامة وحسرة وعذابا، وتموت زوجته ماريا، فما هي إلا أشهر ثلاثة حتى يصاب أخوه الحبيب بمرض في الكبد يودي بحياته هو أيضا، ويقبع الكاتب وحيدا في الصقيع.
فيودور دوستويفسكي يتعرض للاحتيال
أورثه أخوه تركة شاقة في المجلة التي كان على فيودور دوستويفسكي أن يحررها، وهو لا يملك قرشا واحدا والمال الذي يأتي من الاشتراكات في المجلة قد أنفق، يضطر دوستويفسكي إلى وقف صدورها في شهر حزيران يونيو من عام 1865م، وفي تلك اللحظة ظهر له ناشر محتال يعرف اصطياد الفرص ويعرف من أين تؤكل الكتف وهو ستيفن نوفيتسكي، فيعرض على الكاتب أن يشتري منه حق طبع جميع مؤلفاته السابقة في ثلاثة مجلدات بمبلغ تافه 3000 روبل، بالإضافة إلى رواية جديدة لم يسبق نشرها بعد، فقد دوستويفسكي حينها جميع حقوقه عن كتبه ما صدر منها وما لم يصدر. لقد وقع دوستويفسكي هذا العقد في شهر تموز يوليو سنة 1865م.
ومن أجل أن نقدر الغبن الذي أوقعه هذا الناشر المحتال في نفس دوستويفسكي، يجب أن نتذكر أن تورتشينوف كان يتقاضى في ذلك الوقت خمسمئة روبل على الملزمة الواحدة، أي سبعة 7500 روبل، عن الرواية الواحدة المؤلفة من 240 صفحة، وبهذا كان يسدد ما استطاع أن يسدده من ديون ملحة.
الأجواء التي كتبت فيها الجريمة والعقاب
سافر فيودور إلى ألمانيا ليجرب حظه مرة أخرى في القمار، ولكنه لم يفوز بأي شيء، ورفض صاحب الفندق الألماني أن يقدم إلى فيودور دوستويفسكي أي طعام، فظل دوستويفسكي أياما يبتلع الشاي وحده، ففي هذه الفترة من البؤس والجوع تصور دوستويفسكي فكرة روايته الجريمة والعقاب، وتخيل شخصية الطالب الفقير الذي يقرر أن يقتل مربية عجوز في سبيل أن يسعد أسرته.
ويعرض دوستويفسكي على ميتشيل كاسكو وهو محرر أن يبيعه روايته هذه متى فرغ من كتابتها ويسأله أن يعطيه سلفة على ثمنها، ويتاح له أخيرا أن يعود إلى سان بطرسبرغ في تشرين الأول أكتوبر 1865 بفضل معونة يسعفه بها صديقه القديم فرانكل، فما أن يصل إلى سان بطرسبرغ حتى يطارده الدائنون وتلازمه نوبات الصرع من جديد، ومع ذلك يتقدم في كتابة رواياته. وبعد خرج الرواية للعلن تحقق نجاحا كبيرا وينال عليها أجرا مقداره 4000 روبل، قد سبق أن أنفقها لأنه تقاضاه سلفا. وكان عليه في أثناء ذلك أن يسلم ستيفن نوفيتسكي الرواية الجديدة الموعودة، ولكنه لم يكتب منها دوستويفسكي سطرا واحدا.
دوستويفسكي يتزوج من جديد
تلقى فيدور نصيحة من أحد أصدقائه بكونه يعرف فتاة اسمها آنا تجيد الاختزال وستساعده في رواياته ، وبعدما ساعدته كثيرا في تقديم ما وجب عليه للمحرر المحتال في مدة قياسية، رجاها دوستويفسكي أن تعود إليه للعمل في الفصل الأخير من روايته الجريمة والعقاب، فلما وصلت إليه اعترف لها بحبه وهي الأخرى استجابت بالإجاب فتزوجا، ولا يبقى ل فيودور سوى أن يتغلب على مصاعب الحياة وأداء الديون التي تراكمت حتى أصبح الدائنون يهددونه بالسجن، وعلى عداوة أسرته كبيرة العدد، ولا سيما عداوة ابن زوجته الأولى الفتى التافه الذي كان يعيش عالة عليه.
يسافر الزوجان إلى الخارج في شهر نيسان أبريل سنة 1867م فرارا من ملاحقة الدائنين، وتدوم الرحلة أكثر من أربع سنين.
حاول فيودور دوستويفسكي أن يربح من القمار على الروليت مع عمله في كتابة روايته الجديدة الأبله، لقد استبدت به حمى القمار فهو يجازف بكل شيء، فيعيش الزوجان في ذلك حياة مضطربة مع اعترافهما، وتولد له في جنيف ابنته صونيا التي يخطفها الموت بعد بضعة أشهر، فيشعر دوستويفسكي بحزن شديد لموتها، وفي خريف سنة 1869م يعود دوستويفسكي وزوجته إلى ديرسيدن حيث تولد لهما ابنة ثانية يسميانها ليوبار المحبوبة، وهي التي ستقص في المستقبل قصة حياة أبيها الشهير سردا غير صحيح ولا دقيق.
فيدور يحقق النجاح
يمضي دوستويفسكي يعمل في كتابة روايته الزوج الأبدي، فسرعان ما ينجزها وينشرها، ثم سرعان ما يشرع في كتابة رواية جديدة الشياطين لقد أوحى إليه بموضوع هذه الرواية أخ زوجته آنا الطالب بموسكو الذي جاء ليلتحق به دوستويفسكي وزوجته في درسدن أثناء عطلة الصيف، فقص عليهما قصة مقتل رفيق له على يد المنظمة السرية التي يتزعمها نيتشه، أحد دعاة النظرية العدمية، ويقضي فيودور دوستويفسكي سنة 1870م عاكفا على العمل في كتابة روايته، ويجرب حظه مرة أخرى في القمار لكنه قد باء بالخسارة من جديد، ويحلف حينها ألا يقامر بعد ذلك أبدا.
ولا تعود أسرة دوستويفسكي من درسدن إلى بطرسبرغ إلا في شهر تموز يوليو سنة 1871م وهناك تمسك آنا بيديها إدارة مصالح زوجها، فتحسن المساومة مع الدائنين وتهيئ طبعات مستقلة لروايته الأبله والشياطين وتواصل العمل مع زوجها في تأليف روايته الجديدة، هو يملي عليها وهي تكتب اختزالا، ويصبح دوستويفسكي محررا في مجلة المواطن التي يصدرها الأمير، وفي هذه المجلة إنما فتح دوستويفسكي زاوية أسماها يوميات كاتب، فنالت الزاوية نجاحا كبيرا، وفي أثناء ذلك يعرض عليه أن يؤلف رواية لمجلة حوليات الوطن، فيكتب دوستويفسكي رواية المراهق. وبعد ذلك أنشأ مجلته الخاصة التي حققت نجاحا كبيرا.
فيودور دوستويفسكي يكره العثمانيين
كتب فيودور في مجلته العديد من المقالات السياسية الحماسية ينادي فيها بضرورة تدخل روسيا من أجل تحرير السلافي البلقان من رقبة الاحتلال التركي، وفي تلك المقالات إنما يعبر دوستويفسكي عن آرائه الداعية الى السلافية، ويعرب عن رأيه في أن القسطنطينية يجب أن تنتمي إلى روسيا عاصمة الأرثوذكس، وتنشب الحرب أخيرا في 17 من نيسان أبريل سنة 1877م ويقوم فيودور دوستويفسكي في شهر تموز يوليو برحلة إلى الأراضي التي كان يملكها والده، فيتحدث هناك مع الفلاحين الذين يتذكرون طفولته ويتذكرون مقتل أبيه، ويجري مع هؤلاء الفلاحين أحاديث كل مدار فها كان على الحرب فيصرخ قالا على الجميع أن يدرك أن الشعب مستعد لبذل التضحيات في سبيل القضية المقدسة.
اشترى دوستويفسكي منزلا صغيرا بمبلغ زهيد، فيصبح هذا المتشرد الأبدي، هذا المستأجر الأبدي يصبح مالكا، فهو يملك لأسرته منزلا تحيط به حديقة، كانت فيودور دوستويفسكي مصابا بمرض خطير في الرئة فهو يذهب كل صيف إلى المدينة طلبا للعلاج، فلم يستطع أن يحقق من البرامج التي رسمها لنفسه إلا كتابة روايته الكبيرة الإخوة كارامازوف ( يمكنك قراءة ملخص الرواية عبر الضغط هنا ) التي تظل قمة إنتاجه على كل حال، وقد واجه نازلة جديدة حيث أن ابنه الثاني أليكسي الذي لم يكد يبلغ الثالثة من عمره يموت أثناء نوبة صرع، من المستحيل أن يوصف حزن الأب المسكين عن موت ابنه، وسوف يطلق دوستويفسكي اسم هذا الابن على بطله الحلو الرقيق في رواية الإخوة كارامازوف أليوت كارامازوف ( يمكنك قراءة ملخص الرواية عبر الضغط هنا ).
شارك دوستويفسكي في سهرات أدبية قرأ أثناءها مقتطفات من أعماله أعجب بها الجمهور، وانتخب عضوا مراسلا في الأكاديمية ونائب رئيس لجمعية اللطف السلافية.
الأيام الأخيرة ل فيودور دوستويفسكي
أحس فيودور دوستويفسكي أنه في حلم لقد سدد ديونه واشترى بيتا صغيرا يعيش فيه حياة مريحة وله آلاف المعجبين يقرأون له ويفهمونه، لقد انتصر على قدره بالصبر وحده، ولكن ها هي صحته تنهار فجأة ليلة 26 من كانون الثاني يناير سنة 1881م الدم يتدفق من فمه ويتجدد تدفقه من حين إلى حين خلال يومين، ويشعر دوستويفسكي أن منيته قد اقتربت، فيتناول القربان المقدس ويستعد للقاء وجه الله، ويموت دوستويفسكي في التاسع من فبراير سنة 1881م بعد أن يبارك امرأته وأولاده.
إن روسيا كلها كانت تشعر بالحزن لموت الإنسان الكبير الذي ظل مجهولا مدة طويلة والذي تنكرت له الأقدار، إن نعشه يسير نحو اللحد تحت غابة كثيفة من الرايات، أمراء ورهبان وعمال وضباط متسولون يحيطون في النعش المهيب عابرين به المدينة، وأمام القبر المفتوح يتحدثون عن دوستويفسكي كأنه شهيد، فتعود المقبرة التي يغطيها الثلج إلى الصمت، وتبدأ في تلك اللحظة حياة دوستويفسكي الجديدة لا بجسمه على الأرض بل بمؤلفاته الخالدة، في قلوب الذين يقرأون له ويغوصون في أعماق النفس، بل إلى أعماق الوجود.
It’s hard to find experienced people for this subject, however,
you sound like you know what you’re talking about! Thanks