الحرب الأخيرة بين الفرس والروم وصعود العالم الإسلامي | الملحمة لأخيرة بين الفرس والروم
القوات الفارسية تخترق الحدود الرومانية من الشرق وتسيطر على مدينة تلو الأخرى في بلاد الشام ، الجيوش الرومانية تتقهقر بخسائر متوالية ، عشرات الألاف من قاطني المدن تم إبادتهم من طرف الفرس وعشرات الآلاف أخرين تم استعبادهم وأخذوا إلى بلاد فارس ، أصبح الفرس قاب قوسين من السيطرة على القدس أهم مدينة دينية عند الرومان ، ولا يوجد شيء سيمنعهم من ذلك ، بدأ العديد من الحكام المحليين يغيرون ولاءهم لصالح الفرس خاصة اليهود الذين كانوا تحت مظلة الحكم الروماني لقرون عديدة استغلوا الفرصة وتمردوا وانضموا للفرس وساعدوهم في إبادة الرومان كمحاولة لاستغلال صراع الفرس والروم لصالحهم.
الوضع ميؤوس منه والكل يعد الشهور التي بقيت للرومان قبل أن يسقطوا نهائيا ، وفي هذه الأثناء الرسول محمد في مكة تنزل عليه آيات سورة الروم كالتالي” غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ” والكفار بطبيعة الحال سخروا منه ووصفوه بالمجنون والدجال ، كيف لناس بسطاء أن يصدقوا شيئا كهذا؟ بالنسبة لهم المعركة محسومة للفوز ولا شيء بإمكانه تغيير هذا الأمر ، ولكن القدر كان يخبئ مفاجئات لم يكن أفضل المتفائلين يتخيلها ، ولكن قبل كل هذا علينا أن نعرف القصة أولا كيف بدأت؟ والشخصيات الأساسية والخوض في حيثيات حياتهم إليك حكاية ملحمة من أعظم الملاحم التاريخية والتي تأثيرها كبير جدا على تاريخ البشرية ككل .
بداية حياة هرقل في ظل الأوضاع المتأزمة للروم
لم يبدأ القرن السابع ميمون على الرومان ، صحيح أن حدود الإمبراطورية كانت لا تزال ممتدة من أعمدة هرقل أي مضيق جبل طارق في الغرب إلى خليج العقبة وحافة القوقاز ، ولكن الظروف لم تكن في أفضل حالاتها سنتعرف على أهم الشخصيات في هذه القصص ، أولا “هرقل” هرقل أو فلافيوس هيراكليس هو الإمبراطور الذي واجه قوات الفرس أثناء غزوها للأراضي الرومانية في الشرق الأوسط ، ولد هرقل في عام 575 ميلادية أي أنه ولد فقط بعد بضعة سنوات من ميلاد محمد رسول الله الذي لد في 571م ، أي أنه كان من نفس جيله وهذه المعلومة مهمة لا يجب أن ننساها .
لا نعرف كثيرا عن السنوات الأولى لهرقل وكيف قضاها ، ولكن ما نعرفه أنه عاش مع هرقل الأكبر والده والذي كان في علاقة جيدة مع الإمبراطور الروماني أنذاك “موريس” ، وقد كان قائدا مرموقا في الإمبراطورية بحلول عام ستمائة ميلادية ، هرقل الأكبر تم تعيينه من طرف الإمبراطور حاكما على ولاية إفريقية وعاصمتها قرطاج ، وكانت هذه الولاية تشمل أجزاء من تونس وشمال الجزائر والمغرب وأجزاء ساحلية من شبه الجزيرة الإيبيرية وجزر البليار وأيضا سردينيا كورسيكا وأجزاء من شمال ليبيا ، جعل هذا التنصيب هرقل الأكبر من بين أهم الجنرالات في الإمبراطورية ، هرقل الأصغر قضى فترة العشرينيات والثلاثينيات من حياته مع والده في شمال إفريقيا ، وكانت هذه الفترة مهمة جدا في نضجه .
للتوسع أكثر في حياة هرقل كبير الروم اضغط هنا
حياة هرقل في شمال افريقيا
وجد هرقل الأكبر وابنه نفسيهما في أرض غنية لم تكن تعاني من أي مشاكل اقتصادية وعلى الأرجح تعلم هرقل الأصغر أساليب تحسين الدفاع الروماني خلال مواجهة غارات الأمازيغ في شمال إفريقيا ، الأسلوب الدفاعي الروماني البيزنطي في شمال إفريقيا لم يكن ينطوي على بحث وتدمير معاقل البربر ، ولكن كانت تكتيكات دفاعية تقوم على السيطرة على المناطق الاستراتيجية مثل مفترقات الطرق وأماكن تجمع التجار وبناء حصون حولها والدفاع عنها في حال هجوم لقبائل الأمازيغ ، وهذا ما يفسر الأسلوب الذي تعاملت به الإمبراطورية في وقت الفتوحات الإسلامية ، عقود بعد هذا الأمر والذي يقضي بمحاولة تجنب قتال العرب في العراء لتجنب مخاطر الكمائن المحتملة ، قد يكون هذا الأمر نتيجة خبرات هرقل في قتال الأمازيغ ، ولكن التاريخ أثبت خطأ هذه النظرية والتي كلفت الإمبراطورية كثيرا.
هرقل الأصغر تعلم كثيرا خلال مكوثه في إفريقيا ، خصوصا الخبرات البحرية التي ستكون مصيرية في الموانئ التي كانت تحت هيمنة والده ، والطرق التجارية المهمة في مضيق جبل طارق وجزر سردينيا كورسيكا والثروات المعدنية والإمكانات البحرية في قرطاج جنوبا ، كما أن سبتة كانت مقرا مهما للتنصت على أخبار تجار من بلاد قبائل القوط في أيبيريا وبلاد الفرنجة ، تجربة هرقل الأصغر في غرب البحر الأبيض المتوسط جعلت خصومه يصعب عليهم التنبؤ بخطواته المقبلة لأنه لم يكن لديهم أي فهم للتجارب الذي عاشها .
الأوضاع السياسية التي سبقت الملحمة بين الفرس والروم
في نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع بعد عقود من القتال غير الحاسم أنهى الإمبراطور موريس كورس الحرب الرومانية الفارسية من 572 إلى 591م بمساعدة الأمير الفارسي المنفي كسرا ، في المقابل تنازل الفرس عن أجزاء من بلادهم لصالح الرومان في شمال بلاد ما بين النهرين إلى أرمينيا الفارسية وليبيريا ، كان الأباطرة الرومان لديهم عادة في إغراق الجنرالات الرومان في الهدايا أو المكافئات المالية كي يضمن ولاءهم ، هذه التصرفات قضت شيئا فشيئا على احتياطي الخزانة المالية للإمبراطورية ، وكمحاولة لوقف النزيف المالي وضع موريس إجراءات مالية صارمة وخفض رواتب الجيش من أجل القضاء على هذا العجز المالي .
ولكن هذه التصرفات أدت إلى قيام تمرد ضده في البلقان تحت قيادة جنرال اسمه فوكاس ، حيث قام جيشه بمحاصرة القسطنطينية و حاول الإمبراطور موريس الدفاع عنها ولكن بدون جدوى وقام بالهرب ولكن تم اعتراضه وقتله معلنين نهاية حكمه ، وأصبح بذلك فوكاس هو الإمبراطور الجديد للرومان ، بطبيعة الحال لم يتقبل الجميع بشرعية حكمه وسرعان ما بدأ بعض الجنرالات بالتمرد ضده.
بوادر الأولى للصراع بين الفرس والروم
أول من تمرد كان حاكم أرض ما بين النهرين ، بطبيعة الحال لم يقبل فوكاس بهذا الأمر وبعث جنرالا لمحاصرة معقل المتمردين ، مما دفع المتمردين لطلب المساعدة من الملك الفارسي كسرى الذي كان على استعداد للمساعدة في الانتقام لمقتل موريس الذي كان يعتبره بمثابة صديقه ، وقد استخدم موته كذريعة لمهاجمة الأراضي الإمبراطورية في محاولة لاستعادة أرمينيا وبلاد ما بين النهرين ، دخلت القوات الفارسية وقابلت الجيش الروماني في سنة 605م ، حيث كما كان متوقعا استطاعة الفرس هزيمة الرومان وقتل جنرالهم ، ما أدى إلى سيطرتهم على معاقل مهمة.
عدم القدرة على إيقاف المتمردين والقوات الفارسية جعل الإمبراطور في موقف محرج وضعيف ، مما شجع العديد من القادة الأخرين على التمرد من أجل إنهاء حكمه ولعل أكبر تمرد كان في سنة 608م ، وأصبح الجنرال هرقل الأكبر حاكم إفريقية هو حاكم الإمبراطورية ، وفي نفس الوقت تقريبا بدأت الثورات في سوريا الرومانية وفي فلسطين ؛ أرسل هرقل الأكبر ابن أخيه إلى مصر في عام 610م ، حيث نجح في الاستيلاء على تلك المقاطعة وإنشاء قاعدة الدعم هناك ، ولكن قوات المتمردين الكبرى تم توجيهها في أسطول القسطنطينية بقيادة هرقل الأصغر ، حيث سرعان ما انهارت المقاومة المنظمة ضد هرقل وتم تسليم فوكاس له وتم إعدامه وذلك فترة حكمه المضطربة.
اختفى بعد ذلك هرقل الأكبر من السجلات التاريخية لا يعرف بالضبط ما الذي حدث له حينها ، ولكن على الأرجح أنه مات خلال تلك الأحداث .
تولي هرقل الابن السلطة في أجواء معتمة
ظن العديد أن السلام سيحل بنهاية هذه الحرب ، ولكن كل هذا كان فقط البداية لحرب أكبر . في الوقت الذي كان فيه الرومان في حربهم كان الفرس يفرضون أنفسهم في الأرض بتقدم كاسح ، فالنرى إذن ما الذي كان يحصل بالضبط في الجانب الأخر ، استغل الفرس هذه الحرب الأهلية في الإمبراطورية البيزنطية وقاموا بغزو المدن الحدودية في أرمينيا وبلاد ما بين النهرين على طول نهر الفرات ، وفي عامي 610م سقطت مدينة أوديسا ، ولوضع الأمور في نصابها ومعرفة ما الذي يعنيه هذا التاريخ فمن المتفق عليه أنه يمثل العام الذي تلقى رسول الإسلام محمد الوحي لأول مرة ،من المهم أن نعرف أن هذه الأحداث كانت تحصل بالتوازي مع أحداث السيرة النبوية المعروفة.
شن الفرس غارة على أنطاليا وغزوا جميع المدن الرومانية شرق نهر الفرات وفي أرمينيا ، واستولوا أيضا على كايزرية أو قيصرية ، حينما وصل هرقل للحكم ظن أنه قد أنهى فتيل الحرب ، ذلك لأنه اعتقد أن السبب الرئيسي للحرب قد انتهى وعرض على كسرى السلام ، ولكن كسرى رفض هذه المبادرة لأن جيوشه كانت بالفعل منتصرة على نطاق واسع ، بدا واضحا أن هدف الفرس هو استعادة أراضيهم أو حتى تجاوز حدود الإمبراطوريات الفارسية السابقة من خلال تدمير الإمبراطورية البيزنطية تماما ، في هذه اللحظة عانى الرومان من ضعف كفاءة جنرالاتهم على مستوى واسع ، حيث لم يستطيعوا إيقاف الفرس في عمق أراضيهم ، هذا لأن تعيين الجنرالات كان قائما على معيار الولاء وليس الكفاءة مما جعل النجاعة العسكرية للرومان جد محدودة ، في هذه المرحلة استغل كسرى عدم كفاءة جنرالات هرقل لشن هجوم على سوريا الرومانية ، حيث حاول هرقل وقف الغزو على أنطاكية ولكنه تعرض هو وقواته لهزيمة مذلة.
الغزو الفارسي لأراضي الامبراطورية البيزنطية
خسرت القوات الرومانية مرة أخرى أثناء محاولتها الدفاع عن المنطقة الواقعة شمال أنطاكية ، قطعت هذه الهزيمة الإمبراطورية البيزنطية إلى نصفين وقطعت ارتباط القسطنطينية بسوريا وفلسطين ومصر ، كانت هذه ضربة قوية لروح القتال لدى الرومان ، حيث كان واضحا أن مقاومة الفرس في سوريا لم تكن بالقوة المطلوبة ، وسقطت دمشق بسرعة في عام 613م ، مما أعطى الجيش الفارسي فرصة للهجوم جنوبا فلسطين ، واصل بعض الرومان المقاومة ولكنهم هزموا وتم دفعهم جنوبا.
ولكن الأخطر من كل هذا هو أن هذه الخسائر أعطت فرصة لليهود للتمرد والانضمام إلى الفارسيين ، حيث مكن ضعف مقاومة الفرس وحلفائهم اليهود في الاستيلاء على القدس بعد حصار دام ثلاثة أسابيع ، تزعم مصادر أن ما يقارب 57 ألف شخص قتلوا هناك ، وتم ترحيل 35 ألف أخرين إلى بلاد فارس.
بعد معركة أنطاكية في 613م قاد الفرس قواتهم عبر مقاطعات فلسطين دعمهم خلال تقدمهم اليهود ذوي النفوذ الكبير في الإمبراطورية على الأرجح أنهم كانوا تجارا كبار ، حيث ساعدوا الفرس في احتلال القدس دون مقاومة كبيرة ، اتحد مجموعة من اليهود في القدس وطبريا والجليل ودمشق وحتى من قبرص وقاموا بدعم هذا التمرد ، الهدف من هذا الأمر هو واضح فقد كانوا يأملون أن يعطيهم كسرى كل بلاد إسرائيل القديمة مقابل دعمهم للفرس.
في عام 615م وصل الفرس إلى شمال الأناضول مما جعل الفرس على مرمى البصر من القسطنطينية ، في هذه المرحلة كان هرقل مستعدا للتنحي وتحويل الإمبراطورية البيزنطية إلى دولة دمية تحت هيمنة الفرس ، حتى أنه سمح له كسرى باختيار الإمبراطور ، ولكن كسرى رفض عرض السلام لأنه كان يريد إنهاء الوجود الروماني نهائيا ، ولكن القوات الفارسية لم تتوجه للقسطنطينية مباشرة ، وإنما تراجعت للتركيز على غزو مصر . في عام 618م نزلت القوات الفارسية على مصر بعد حصار دام عام ، انهارت المقاومة في الإسكندرية وسيطر الفرس عليها حيث شكلت خسارة مصر ضربة قاسية للإمبراطورية البيزنطية ، اعتمدت القسطنطينية على شحنات القمح والحبوب من الأراضي المصرية .
الرسالة التي أرعبت هرقل وجنرالاته
بعد احتلال مصر أرسل كسرى الرسالة التالية إلى هرقل من كسرى عظيم الألهة وسيد الأرض إلى هرقل عبده الحقير والبربري ، لماذا لا تزال ترفض الخضوع لحكمي وتسمي نفسك ملكا أولم نقضي على الإغريق قبلكم؟ أنت تقول أنك تثق بإلهك ، لماذا لم ينقذك من يدي في قيصرية والقدس والإسكندرية؟ أفلا أستطيع أن أهرب القسطنطينية أيضا؟ لكني سأغفر ذنوبك إن خضعت لي وأتيت إلى هنا مع زوجتك وأولادك ، وسأعطيك الأراضي والكروم والزيتون وسوف أعطف عليك ، لا تخدع نفسك بأمل باطل في ذلك المسيح الذي لم يقدر أن يخلص نفسه من اليهود الذين قتلوه على الصليب ، حتى لو لجأت إلى أعماق البحر بعد غزوا القسطنطينية فلن أمد يدي إليك.
فهل كانت هذه هي نهاية الإمبراطورية الرومانية البيزنطية
يعتقد أنه في هذه الأثناء نزلت الآيات الأولى لسورة الروم متنبئة بأن الروم سينتصرون في النهاية ، سخر الكثيرون من هذا الأمر خصوصا أن المستقبل كان مظلما والأحداث المستقبلية لم تكن أفضل مما سبقها ، فكيف سيستطيع الرومان قلب موازين القوى في ظل كل هذه الصعوبات وضعف المعنويات التي أصيب حتى هرقل نفسه بها .
ففي أنطاليا رجع الفرس لمواقعهم متجهين نحو القسطنطينية ، كما أنهم سيطروا على رودس والعديد من الجزر الأخرى في بحر إيجة ، كان من المتوقع أن يقوموا بهجوم بحري على القسطنطينية ، صار الوضع يائسا جدا في القسطنطينية لدرجة أن هرقل فكر في نقل عاصمته إلى قرطاج في إفريقيا خوفا من سقوط العاصمة ، ولكن بدلا من أن ينسحب ويستسلم فقد قرر أن عليه أن يهاجم بلاد فارس مباشرة في محاولة يائسة لإنقاذ ما بقي من الإمبراطورية ، حيث أخرج عملة جديدة أخف وزنا وظهرت فيها من جهة الصورة المعتادة لأي رجل وابنه ، لكنها حملت بشكل فريد كتابة ديوس يوتا رومانس أو فليكن الرب في عون الرومان ، يظهر هذا الأمر اليأس الذي كانت تعانيه الإمبراطورية أنذاك ، على إثر هذه الاستعدادات تم تجريد المعادن الثمينة والبرونز من الأثار والتماثيل وحتى من آيا صوفية .
هرقل يقود الحرب
قرر هرقل بنفسه قيادة الجيش من الخطوط الأمامية ، وهكذا تم تجديد القوات البيزنطية وإعادة تجهيزها من أجل هجوم أخر حاسم ، بحلول عام 622م كان هرقل جاهزا لشن هجوم مضاد غادر القسطنطينية وقضى الصيف في التدرب لتحسين مهارات رجاله وقيادته الخاصة ، وفي الخريف هدد هرقل الانتصارات الفارسية من وادي الفرات إلى الأناضول بالسير إلى كابادوكيا ، حيث أجبر هذه القوات الفارسية إلى الانسحاب من الخطوط الأمامية إلى شرق الأناضول من أجل منع وصوله إلى إيران .
ما حدث بعد ذلك هو أن جيش الفرس نصب كمينا لجيش هرقل ، ولكن بعض الجواسيس علموا بشأن هذا الكمين ، وتظاهر الرومان بالتراجع ، إلتقط الفرس الطعم وظنوا أنهم متجهون لنصر سهل ، ولكنهم سرعان ما انقض عليهم بعدما تخلوا عن مواقعهم الدفاعية ، وانتصر عليهم الرومان في خريف عام 622م .
هجوم القبائل الأوراسية على البيزانطيين
ولكن الفرحة لم تكتمل فسرعان ما جاءت أخبار مرعبة من بلاد البلقان ، بينما كان الرومان متحاربين مع الفرس في أنطونيا ، استغلت قبائل أوراسيا هذه الظروف وحشدوا جيوشهم وأغاروا على الأراضي الرومانية في البلقان ، وتمكنوا من السيطرة على العديد من المعاقل . ولكن الذي منعهم من الهجوم على القسطنطينية هو عدم قدرتهم على السيطرة على ثاني أهم مدينة في البلقان تسالونيكي انتهى حصارها بالفشل ، ما سمح للبيزنطيين بفتح باب التفاوض لأنهم لم يكونوا قادرين على مواجهتهم عسكريا ، وأرسل هرقل مبعوثا إلى قائد القبائل الأوراسية خان الأعذار قائلا إننا سندفع جزية مقابل انسحابكم شمال نهر الدانوب.
خيانة الأوراسيين لهرقل
أجاب خان الأعذار بطلب عقد اجتماع في الخامس من يونيو 623م بشرط أن يأتي هرقل بنفسه ، ووافق هرقل على هذا الاجتماع واتجه بقافلة نحو جيش الأعذار ، ولكن خان الأعذار أرسل خيالة من أجل أن يأسر هرقل ويفاوض به من أجل فدية ، لحسن حظه تم تحذير هرقل في الوقت المناسب وتمكن من الفرار ، طاردوه على طول الطريق إلى أصوار القسطنطينية ، ولكن الكثير من أفراد قافلته تم أسرهم وقتلوا ، كما أن الأوراسيين قتلوا ما يقارب سبعين ألف مزارع وفلاح أثناء مطاردة جيش هرقل ، ولكن برغم الخيانة اضطر هرقل إلى منح الأعذار جزية قيمتها مئة ألف سويدي ، وهي العملة الذهبية الرومانية من أجل عقد السلم معهم.
الهجوم البيزنطي المضاد | الفرس والروم
في عام 624م عرض هرقل السلام على كسرى مهددا بأنه سوف يهاجم إيران في حال رفضه هذا العرض ، ولكن بطبيعة الحال رفضه ، وفي 25 مارس 624م غادر هرقل القسطنطينية لمهاجمة قلب بلاد فارس مباشرة ، ولم يقم بتكليف فرق لحماية طريق رجوعهم لأنه كان يعرف بأن هذا الهجوم سيكون هجوما حاسما إما النصر وإما أنها ستكون النهاية فعليا ، سار عبر أرمينيا وأذربيجان الحديثة لمهاجمة الأراضي الفارسية الأساسية مباشرة ، كان قوام جيشه لا يزيد عن الأربعين ألف وانضم إليه في هذه اللحظة حلفاءه من المسيحيين العرب ، تمكن من القضاء على عدة تجمعات فارسية في المنطقة ما أدى إلى التقهقر القوة الفارسية واضطروا للابتعاد .
فقط كي نعرف التزامن في الأحداث ففي نفس هذا العام حصلت معركة بدر المشهورة في التاريخ الإسلامي التي لم يهتم أي طرف من هذه الأطراف بها ، فلنعد للقصة فقد قضى هرقل الشتاء في ألبانيا القوقازية وحشد قواته للعام المقبل ، ولكن كسرا لم يسمح له بالاستراحة حيث أرسل ثلاث جيوش لمحاولة محاصرة هرقل وتدمي جيشه ، كان هدفه الاستيلاء على الممرات الجبلية شمالا ، ووضع جيشا أخر لمنع تراجع هرقل عبر إيبيريا القوقازية .
انتصار البيزنطيين بقيادة هرقل
كانت خطة هرقل تقوم على الاشتباك مع الجيوش الفارسية بشكل منفصل حيث خطب هرقل في جنوده وحلفائه قائلا لا تدعوا على أعدائنا يرهبونكم ، فإن شاء الرب فسوف يقضي الواحد منا على ألف منهم . بالنسبة للفرس وبسبب الغيرة بين جنرالاتهم ، فقد ابتعد الجيشان عن مواقعهم وتسابقوا من أجل هزيمة هرقل ونيل المجد لأنفسهم ، ولكنه تمكن بسبب عدم تنظيمهم من هزيمة الجيشان واحدا تلو الأخر.
بعد هذا النصر خيم هرقل قرب الجبال المحيطة وبقصد إضعافه أرسل الجيش الفارسي ألف جندي من أجل نصب كمين للرومان وخيم بالقرب من جيشه ، في حين أن هرقل توقع هذه الحركة ، ومن أجل حسم المعركة قبل حتى أن تبدأ أغار على مخيم الفرس في الليل مدمرا بذلك إياه ومحققا نصرا عظيما لم تشهده الإمبراطورية منذ عهد يوليوس قيصر . في تلك الفترة رأى كثرون أن هناك حاجة إلى هجوم مضاد حاسم لهزيمة البيزنطيين ، وقاموا بتجنيد جيشان جديدين من جميع الرجال القادرين بما في ذلك الأجانب.
محاولة الفرس لإنقاذ ايران من الغزوا البيزنطي | الفرس والروم
جمع الفرس جيشا يقدر بخمسين ألف رجل جاءوا من أنحاء الامبراطورية لمنع هرقل من غزو إيران ، تسلل جيش أصغر منه من الثغرات الدفاعية عند البيزانطينين وتوجهوا نحو القسطنطينية ونسقوا مع الأعذار “القبائل الأوراسية” لهجوم مضاد على القسطنطينية من الجانب الأوروبي والأسيوية ، ولكن بسبب قوة البحرية البيزنطية فقد عجز الفرس عن إرسال قوات لدعم الأعضاء ، بعد سماع هذه الأخبار قام هرقل بتقسيم جيشه إلى ثلاثة أجزاء ، أرسل الجزء الأول تعزيزات إلى القسطنطينية لرفع الروح المعنوية للمدافعين ، وقام الجزء الثاني من الجيش بالذهاب للتعامل مع الجيش الفارسي في بلاد الرافدين ، بينما بقي الجزء الثالث الأصغر تحت سيطرته بهدف مداهمة القلب الفارسي في 19 من يونيو 626م.
في الجانب الأخر بدأ هجوم منسق على جدران المدينة دفع حوالي 12 ألف من سلاح الفرسان البيزنطي مدربين جيدا على المدينة ضد حوالي ثمانين ألف مقاتل من الأعذار ، على الرغم من الغارات المتواصلة التي استمرت لمدة شهر ، كانت الروح المعنوية عالية داخل أصوار القسطنطينية ، وفي السابع غشت حاصرت سفن بيزنطية أسطولا من الطوافات الفارسية التي كانت تنقل القوات عبر مضيق البوسفور وقاموا بتدميرها ، كما فشل هجوم بري أخر قاده الأعذار في الفترة بين السادس والسابع غشت ، تراجعت في هذه الأثناء الأعذار للمناطق النائية في البلقان في غضون يومين ولم تهدد القسطنطينية مرة أخرى ، وانتهى بذلك الحصار عن المدينة بعد سماع أخبار الفشل.
انقلاب الحرب لصالح البيزنطيين | الفرس والروم
قام كسرى بإصدار أوامر بقتل الجنرالات الذين فشلوا في تحقيق الانتصار ، مما اضطر العديد منهم إلى عقد صلح مع هرقل والانضمام لجيشه ، خلال حصار القسطنطينية استغل هرقل هذا الوقت وشكل تحالفا مع الشعوب التي يطلق عليه اسم الخرس ، والذين يعرفون عموما باسم الترك الغربيين الذي كانوا أعداء للفرس ، وفي عام 625م استغل الأتراك ضعف الدفاعات الفارسية شمالا لاحتلال بكتريا وأفغانستان حتى أنهم وصلوا حتى نهر السند ، كما قامت جيوشهم المتمركزة في القوقاز بإرسال أربعين ألف من رجالهم للإغارة على الإمبراطورية الإيرانية عام 626م في تلك اللحظة كان هرقل يتغلغل في بلاد ما بين النهرين وبالقرب من أنقاض المدينة القديمة نينوى ، اشتبك هرقل مع جيش فارسي حيث وقعت معركة نينوى في الضباب مما قلل من الميزة الفارسية لقوات الرماح والسهام.
تظاهر هرقل بالتراجع وقاد الفرس إلى السهول قبل أن يقوم بهجوم فجائي على الفرس ، تقاتل الطرفان لمدة ثماني ساعات وبعد ذلك تراجع الفرس فجأة إلى التلال القريبة ، قتل ما يقارب ستة آلاف جندي فارسي ومن أجل حفظ ماء الوجه قام القائد الفارسي بتحدي هرقل في مبارزة وقبل هرقل وتمكن من هزيمته وقتل الجنرال الفارسي مما أنهى أمل الفرس في النصر ، مع عدم وجود جيش فارسي لمعارضته نهب جيشه المنتصر عمق الإمبراطورية الفارسية وتمكنوا من دخول قصر كسرى الذي كان قد هرب منه ، ثم أصدر هرقل إنذارا نهائيا إليه قائلا أسعى وأجري من أجل السلام أنا لا أريد أن أحرق بلاد فارس ، ولكن إذا أجبرتني على ذلك فسوف أفعل دعونا الان نلقي أسلحتنا ونعطي السلام ، دعونا نطفئ النار قبل أن تحرق كل شيء.
احلال السلام وانتصار هرقل | الفرس والروم
وافق الفرس على السلام ، حيث لم يفرض هرقل شروطا قاسية فقط استعاد البيزنطيون جميع أراضيهم المفقودة وجنودهم الأسرى وفرضوا تعويضات على الخسائر ، بعد بضعة أشهر من السفر دخل هرقل القسطنطينية منتصرا ، عزز انتهاء الحرب مكانة هرقل كواحد من أنجح الجنرالات في التاريخ ، وأخيرا تحقق النبوءة الإسلامية بعد سنوات طويلة وانتصر الروم على أعدائهم بعدما كاد هرقل نفسه يفقد الأمل ، ففرح المسلمون بهذا النصر الذي اعتبروه بشرى ، وفي نفس هذه الأثناء بعث رسول الله رسالة إلى هرقل يدعوه للإسلام ، فأعجب هرقل بما سمع عن الإسلام وعن محمد وقال عنه قولته الشهيرة إن كان ما تقوله حقا فلا يملك موضع قدم هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لو تكلفت المشقة للوصول إليه كنت عنده لقتلته عند قدميه ، وسبب ذلك هو لعلمه من خلال الديانة المسيحية ببعض صفات النبي محمد.
السبب الذي جعل هرقل لا يسلم كان على الأرجح خوفه على منصبه ومكانته ، ولكنه رغم ذلك عامل هذه الرسائل بكل خير واهتمام وصرف السفير النبوي بالحسنى ، ولكن لا يمكن قول نفس الأمر للرسالة التي وصلت لكسرى فقد مزقها وقال عدو حقير من رعية يكتب اسمه قبلي ، ولكن لم يدم الكثير من الوقت بعد هذا الأمر حتى تمرد الجيش الفارسي ضده وأطاح به وحبسه في زنزانة حيث عانى لمدة خمسة أيام وقتل رميا بالسهام.
بلاد فارس بعد الحرب
غرقت بلاد فارس في اضطرابات بين الأسر الحاكمة وحروب أهلية ، نجح في النهاية حفيد كسرى الذي تولى العرش في عام 632م في تحقيق الاستقرار ، ولكن بحلول ذلك الوقت كان الأوان قد فات لإنقاذ المملكة الفارسية ، بينما كان الفرس والرومان يتقاتلون ، كانت قوة جديدة تتشكل ولم يعد لها أي اهتمام ، فقد استطاع المسلمون تحقيق العديد من الانتصارات والمكاسب خلال هذه الفترة.
ففي عام 630م تمكنوا من السيطرة على مكة بأهميتها الجغرافية والتي تقع في ملتقى الطرق التجارية .