ركن الدين أبو الفتوح الظاهر بيبرس طارد الصلبين وقاتل قطز

اختلفت الأراء حول تاريخ ميلاد الظاهر بيبرس وإن كان الكثير منها يرجح انه ولد عام ألف ومئتين وثلاثة وعشرين ، أما عن مكان ولادته فلا يوجد مصدر تاريخي ثابت حول ذلك أيضا ، يرجع الظاهر بيبرس في الأصل الى قبائل الشركس التركية المتواجدة في كازاخستان وخصوصا في منطقة القفر ، تم اختطافه من أهله وهو صغير لأن قبيلته كانت تعتبر نوع من العبيد المطلوب ، فتم بيعه بمبلغ جيد جدا ولكن اكتشفوا أن عينه اليسار فيها مشكلة (عمياء) ، فأرجع إلى السوق فاشترى وأبيع عدة مرات إلى أن اشتراه علاء الدين ، وأسماه الظاهر بيبرس كل هذا في ظل الدولة الأيوبية .

 ثم ساقه القدر إلى أن انتقل إلى العاصمة المصرية القاهرة ، وذلك بعد أن ألقي القبض على علاء الدين وصودرت ممتلكاته ، فعمل بيبرس في خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي لاحظ تميز بيبرس وتفوقه على أقرانه ، فأعطاه وضمه إلى قوات الأمير فارس الدين أقطاي بل ومنحه الإمارة ، ومن هنا بدأ الظاهر بيبرس مشواره الطويل نحو قمة المماليك .

صعود نجم الظاهر بيبرس

 بدأ نجم بيبرس بالظهور في معركة المنصورة ، ففي تلك المعركة التي وقعت عام ألف ومائتين وخمسين زحف الصليبيون على مصر فيما عرفت بالحملة الصليبية السابعة ، واستطاعوا الاستيلاء على مدينة دمياط ثم واصلوا زحفهم حتى وصلوا إلى مدينة المنصورة ، وفي ذلك الوقت العصيب توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب كما قتل قائد الجيش فخر الدين ابن الشيخ ، وهنا خرج المماليك بخطة عبقرية ويقال أن بيبرس هو من رسم تلك الخطة ذلك أنهم قاموا بإخلاء شوارع المنصورة ، وعندما دخل الصليبيون إلى المدينة مطمئنين وهم يظنون أن المدينة قد خلت من الجنود والسكان ، انقض المماليك والمصريون عليهم من كل جانب ، وانتهت المعركة بهزيمة الغزاة ووقوع الملك لويس التاسع في الأسر.

وهكذا تمكن المماليك من صد الخطر الصليبي عن مصر.

 اشتعلت الأحداث في مصر بسرعة عقب اغتيال توران شاه ابن الملك الصالح ، ومن ثم تولي شجر الدر أرملة نجم الدين أيوب حكم مصر الأمر الذي أثار غضب الخليفة العباسي المستعصم بالله وأمراء الأيوبيين في الشام ضدها ، فتزوجت المعز عز الدين أيبك التركماني وتنازلت له عن الحكم ، لكن هذا الأخير قام بقتل فارس الدين أقطاي بعد أن تعاظم نفوذه بشكل كبير ، الأمر الذي استشعر أمراء المماليك الخطر على حياتهم فهربوا إلى الشام وعملوا على تحريض الأمراء الأيوبيين للزحف على مصر لاستعادة المجد الأيوبي الضائع ، وبالفعل استجاب لهم بعض الأمراء لكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح بفعل سيف الدين قطز الذي استطاع صدهم عن مصر .

 في تلك الأثناء تزوج بيبرس من امرأة شهر سوريا ، لكن ما لبثت الأمور أن انقلبت على المماليك عندما حاصرهم الناصر يوسف بعد أن قويت شوكتهم وأصبحوا مصدر خطر عليه ، وفي أثناء الحصار شعر بيبرس بخطورة الموقف فتسلل من قلعة الكرك ولجأ إلى الناصر يوسف الذي عفا عنه ، واستقبله بكل سعادة وأخذ يجهز ويستغل غضبه على قطز وعلى أيبك وأرسل معه قوات لمصر كي يحاربهم ، بعد عدة معارك حصلت بين بيبرس وقوات أيبك ، قرر الناصر يوسف أن يدخل في صلح مع المماليك ، بعدما قتل السلطان أيبك على يد زوجته شجر الدر ، ثم توالت الأحداث بسرعة بعد ذلك لينتهي المطاف بتولي سيف الدين قطز عرش مصر عام الف ومئتين وتسعة وخمسين.

تولي قطز وبداية الصراع مع المغول

 وتبدأ مرحلة جديدة من الصراع على العرش مرحلة دامية ، عندما تولى قطز عرش مصر أرسل بيبرس رسالة إليه يطلب منه توحيد الجبهة المملوكية ضد الخطر المغولي الذي كان يجتاح العالم الإسلامي ، وقد رحب قطز بتلك المبادرة واستقبله المماليك بترحاب حتى إنه أسكن بيبرس في دار الوزارة ، وسرعان ما اندلعت معركة عين جالوت عام ألف ومائتين وستين التي كان فيها بيبرس قائدا للجيش ، واشتهر وقتها بتخطيط دقيق وذكي للمعركة فأبلى مع سيف الدين قطز بلاء حسنا ، واستطاع المسلمون هزيمة المغول هزيمة ساحقة ومن ثم مطاردة المغول وطردهم من بلاد الشام بعد معركة عين جالوت.

 كان من المفترض أن تؤول ولاية حلب إلى الظاهر بيبرس كما وعده قطز ، لكن هذا الأخير كان يخطط لترك السلطة وتعيين بيبرس بدلا منه كما تذكر بعض المصادر ، وهكذا أعطى قطز ولاية حلب إلى علاء الدين ابن حاكم الموصل ، فظن بيبرس أن قطز قد أخلف وعده له فاتفق مع بعض أمراء المماليك على قتله ، وتم له ذلك بالفعل أثناء رجوع قطز من إحدى رحلات الصيد فانقض عليه بيبرس وقتله ليصبح الطريق أمامه مفتوحا إلى العرش.

تولي الظاهر بيبرس للسلطة واشتعال الثورات

 في عام ألف ومئتين وستين تولى الظاهر بيبرس حكم مصر وبلاد الشام ولقب بالقاهر قبل أن يعدله إلى الظاهر بعد أن أوصاه وزيره بتغيير هذا اللقب لأنه لم يجلب الخير لمن لقب نفسه به على مر التاريخ ، ثم كان أول ما فعله عقب توليه الحكم هو القضاء على الاضطرابات الداخلية التي اندلعت بسبب احتجاج البعض على قتل قطز وعلى رأسهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان واليا على دمشق من قبل ، فنادى بنفسه سلطانا على دمشق فأرسل بيبرس إليه حملة عسكرية وتمكن من القضاء عليه وإعادة دمشق تابعة إلى مصر .

وكان من بين الاضطرابات التي واجهت الظاهر بيبرس في بداية حكمه هي ثورة رجل يدعى الكوراني الذي عمل على إعادة الحكم الفاطمي إلى مصر ، وقد أدت تلك الحركة إلى إعلان العصيان على بيبرس والمسير في شوارع القاهرة ليلا ثم الهجوم على مخازن السلاح والاسطبلات وأخذ ما بها من السيوف والخيل ، إلا أن بيبرس تمكن من الإحاطة بالمتمردين والقبض على جميع زعمائهم وعلى رأسهم الكوراني ، حيث أمر السلطان بصلبه على باب بالقاهرة ، وبهذا انتهت جميع محاولات الفاطميين بالتمرد والعودة إلى حكم مصر.

 لما كان بيبرس قد صعد إلى العرش على دماء رفيقه قطز فقد كان بحاجة إلى أن يضفي نوعا من الشرعية على حكمه إلى جانب كسب شعبية الناس ، فعمل على إحياء الخلافة العباسية في القاهرة التي سقطت من قبل على يد المغول في بغداد بعد أن قتل الخليفة العباسي المستعصم بالله وأباد مدينة بغداد عن بكرة أبيها عام ستمئة وستة وخمسين ، وهكذا رأى الظاهر بيبرس أن إحياء الخلافة العباسية سيحقق له هدفه لما كان للخلافة العباسية من مكانة عظيمة في نفوس المسلمين ، وهكذا استدعى بيبرس أحد أبناء البيت العباسي وهو القاسم أحمد إلى القاهرة وبايعه بالخلافة عام ستمائة وتسعة وخمسين للهجرة ، وبالرغم من مبايعة بيبرس لقاسم أحمد الذي لقب الخليفة المستنصر بالله ، إلا أن الخلافة لم يتدخل في الشؤون المملوكية بل كانت السلطة الفعلية في يد بيبرس .

بداية التطهير

 بعد أن استتب الأوضاع للظاهر بيبرس عمل على التخلص من أعدائه الذين يتربصون بدولته ، فتخلص من الملك المغيث عمر بن العادل الأيوبي حاكم الكرك الذي لم يكتف بالوقوف ضد بيبرس ، بل أرسل إلى هولاكو زعيم المغول محرضا إياه على غزو مصر ، فألقى بيبرس القبض عليه وقتله عام ستمئة واثنين وعشرين واستولى على الكرك ؛ من بين القوى التي واجهت بيبرس فرقة الباطنية التي عملت على نشر مذهبها بين الناس وإثارة الذعر والترهيب بينهم ، وذلك باغتيال القادة والعلماء فتصدى لهم بيبرس إذ عهد إلى العلماء والشيوخ استمالتهم في حين واجه زعمائهم واقتحم قلاعها وأماكن تمركزهم ( للتوسع أكثر في هذا الموضوع اضغط هنا وذلك لكي لا نطيل )

لتستعيد الدولة استقرارها أخيرا بعد قضائه على الأخطار والاضطرابات الداخلية التي عصفت بدولته ، كان على بيبرس مواجهة أسوأ وأشرس عدوين على الإطلاق وهما المغول والصليبيين ، لكن قبل مواجهتهما كان عليه أن يؤمن ظهره أولا ، فعمل على التحالف مع الإمبراطورية البيزنطية وعقد معاهدات مع إمبراطور الدولة الرومانية فريديريك الثاني ، كما أقام علاقات ودية مع ملك قشتالة ألفونسو العاشر حتى يضمن حياد تلك القوى أثناء محاربته للصليبيين ، وهكذا بدأ بيبرس في شن غاراته على الصليبيين بداية من عام ستمئة وثلاثة وستين ، ففتح قيسارية وارسو وقلعة صفد ويافا ، ثم توج تلك الانتصارات الرائعة بفتح مدينة أنطاكية التي ظلت ترزح تحت الحكم الصليبي أكثر من قرن ونصف من الزمان وذلك في عام ستمائة وستة وستين للهجرة.

 سعى الظاهر بيبرس إلى التحالف مع بركة خان ابن عم هولاكو وزعيم القبيلة الذهبية المغولية الذي أعلن إسلامه ليتبعه معظم أبناء قبيلته ، وقد أمر بيبرس بالدعاء لبركة خان على المنابر وتزوج من ابنته ، وهكذا واجه هذا التحالف هولاكو زعيم المغول الشرس ، وتمكن بيبرس من تحقيق عدة انتصارات رائعة على المغول كان اخرها معركة أبلغ سنة ستمئة وخمسة وسبعين والتي هزم فيها المغول هزيمة ساحقة ، ليتمكن بيبرس في نهاية المطاف من تحقيق أهدافه الخاصة بتأمين حدوده من الجبهتين الشمالية والشرقية.

عهد الظاهر بيبرس | عصر نهضة المماليك

 شهد عصر الظاهر بيبرس نهضة معمارية وتعليمية وعسكرية كبيرة ، فمن الناحية العسكرية فقد استولى بيبرس على المدن والقلاع الممتدة على الطريق بين مصر والشام ، وعمل على تحصين الثغور والأطراف والقلاع التي خربها المغول في الشام وعلى تزويدها بالرجال والسلاح ، كما عمل على تقوية الأسطول والجيش وأشرف بنفسه على بناء السفن الحربية في دور صناعتها الموجودة في الفسطاط والإسكندرية ودمياط.

 ومن الناحية المعمارية فقد اهتم بيبرس بتجديد الجامع الأزهر وأعاد خطبة الجمعة والدراسة إليه بعد أن هجر طويلا ، ونصب أربعة قضاة شرعيين واحدا من كل مذهب من مذاهب السنة الأربعة بعد أن كان القضاء مقتصرا على قاضي قضاة الشافعي ، ومن الناحية التعليمية فقد عمل بيبرس على إنشاء العديد من المؤسسات التعليمية ، فأنشأ المدارس بمصر ودمشق كما أنشأ في عام ستمئة وخمسة وستين جامعة الظاهر بيبرس والذي ما زالت قائما إلى اليوم ، كما عمل الظاهر بيبرس على حفر الخلجان والترع إلى جانب إنشاء القناطر والجسور والأسوار كذلك أنشأ مقياسا لنهر النيل ، واهتم بالتجارة وسعى لتأمينها وغير فيها الكثير من الأعمال ، كما نظم البريد وخصص له الخيل وبنى كثيرا من العمائر وعمل على مكافحة الخمور وأقفل الحانات ونفى الكثير من المفسدين.

 لم تكن تلك النهضة قاصرة على مصر وحسب بل امتدت أيضا خارجها ، فقد قام بيبرس بالعديد من الإصلاحات في الحرم النبوي بالمدينة المنورة وقام بتجديد مسجد إبراهيم عليه السلام في الخليل ، كذلك قام بتجديد قبة الصخرة وبيت المقدس وعمل على إقامة دار للعدل للفصل في القضايا والنظر في المظالم .

الوفاة

 لم يمتد العمر الظاهر بيبرس طويلا لينعم بانتصاراته وإنجازاته ، فبعد رجوعه من معركة فلسطين عام ستمئة وخمسة وسبعين وافته المنية عن أربعة وخمسين عاما ، ودفن في المكتبة الظاهرية الموجودة في دمشق ليسدل الستار بذلك على واحد من أعظم شخصيات الدولة المملوكية.

أنظر لغرابة الدنيا فقد بدأ حياته مملوكا يباع ويشترى في سوق النخاسة ، ثم هيأت له الأقدار الفرصة ليصير أحد أشهر وأعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط ، إنه رابع سلاطين الدولة المملوكية والمؤسس الحقيقي لها السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس ، ذلك الرجل الذي جمع بين البراعة العسكرية والمهارة الإدارية والذكاء السياسي ، فحقق العديد من الانتصارات على الصليبيين والمغول ابتداء من معركة المنصورة ومرورا بعين جالوت وانتهاء بقضائه على إمارة أنطاكية الصليبية ، إلى جانب إحيائه للخلافة العباسية التي سقطت على يد المغول في بغداد ، رغم كل تلك الإنجازات المذهلة وغيرها إلا أن التاريخ لم ينس له أبدا أنه هو من قتل السلطان سيف الدين قطز ليعتلي العرش على دمائه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى