نيرون جلاد روما المجنون | أخر أباطرة روما
نيرون هو الإمبراطور الروماني الخامس والأخير من سلالة جوليا كلوديا ولد باسم “لوسيوس دوميتيوس أهنوباربوس” في مدينة أنتيوم بإيطاليا في 25 من ديسمبر عام 37 للميلاد ، كان والده “ديميتريوس أهنوباربوس” جنرالا ومستشارا رومانيا سابق، توفي عندما كان نيرون في سن الثالثة، أما والدته فقد نفاها الإمبراطور كاليجولا واضطرت إلى ترك نيرون الصغير عند عمته لترعاه، عادت الأم لابنها ليجتمع شملهم بعد فترة وجيزة من مقتل كاليجولا واستلام الإمبراطور كلوديوس العرش، تزوجت والدة لوسيوس دوميتيوس ( نيرون ) كلوديوس الذي كان عمها عام 49 للميلاد، وخططت لجعله يتبنى ابنها ويعطيه اسما جديدا هو نيرون.
عندما بلغ لوسيوس دوميتيوس الرابعة عشرة من عمره استطاعت أمه أن تقنع زوجها بإعلان نيرون وريثا للعرش، وهكذا تم تعيين نيرون نائبا للإمبراطور الذي لم يكن يدري المؤامرة التي تحاك ضده، تزوج الابن المتبنى حديثا أخته غير الشقيقة أوكتافيا وبذلك أصبح وريث كلوديوس الشرعي، إذ فضله على ابنه البيولوجي بريتاني كوس الذي توفي بعد تنصيب نيرون إمبراطورا، بعد وفاة كلوديوس عام 54 للميلاد الذي يعتقد أنه سمم بالفطر.
نيرون امبراطور روما بيد ملطخة بالدم
أصبح نيرون في سن 17 إمبراطورا بدعم من الحرس الإمبراطوري، وفي أول سنتين من حكمه وضعت صورته في العملات النقدية جنبا إلى جنب مع والدته ، تدعي بعض المصادر التاريخية أن أم نيرون كان لها يد في موت زوجها كلوديوس عندما شعرت بأنه بدأ يفضل ابنه الشرعي بريتاني كوس على نيرون، وبمقتل كلوديوس أصبح الطريق مفتوحا أمام لوسيوس دوميتيوس إلى عرش روما.
يكتب كاسيوس ديو الذي عاش بين عامي 155م-235 للميلاد عن والدة نيرون أنها أدارت كل شؤون الإمبراطورية وأعمالها، إذ استقبلت السفراء وأرسلت الرسائل إلى مختلف الجاليات والحكام والملوك، لكن لم تستمر علاقة لوسيوس دوميتيوس بوالدته بشكل جيد حيث إنها انهارت بعد سنتين من توليه الحكم، إذ لم تعد تطبع صورها على العملات بعد عام 55 للميلاد، مما أفقدها نفوذها لصالح كبار مستشاري نيرون مثل الفيلسوف سينيكا وقائد الحرس الإمبراطوري بوروس الذي كان يقدم له النصح في الشؤون العسكرية، وفقا للسجلات الرسمية أعطى نيرون الأوامر بقتل والدته عام 59م لأنها كانت تخطط لقتله، لكن مهما كانت الأسباب فقد عرف لوسيوس دوميتيوس أن هذا القرار سيعود ليؤثر فيه مستقبلا.
الاشمئزاز
يقول ديفيد سوتر أستاذ التاريخ في جامعة لانكستر في كتابه سببت الجريمة التي ارتكبها لوسيوس دوميتيوس حالة من الاشمئزاز والقرف في العالم الروماني، لأن الأم من أقدس الرموز ضمن العائلة الرومانية، حيث أمر نيرون قوات البحرية بإغراق القارب الذي كانت تبحر فيه أمه، ولم يأمر الحرس الإمبراطوري بذلك لأنه لا يثق بهم لتنفيذ عمليات القتل، لقد فشلت المحاولة الأولى لأن الأم تمكنت من السباحة إلى الشاطئ، فأمر نيرون القوات بتنفيذ العملية مباشرة في كتاب نيرون لمؤلفه يورغ مالتوس ينقل عن باستوس عاش بين عامي 156 للميلاد أن أغرب ما قالته الأم للقوات عندما جاءت لقتلها، إذا أتيتم لتنفذ جريمة فأنا لا أصدق أن ابني قد يصدر أمرا بقتل والدته، كتب معلمه سينيكا بنفسه إلى مجلس الشيوخ تقرير نيرون عن جريمة القتل، وقال أعضاء مجلس الشيوخ أنهم اعتقدوا أن حياته كانت في خطر بعد قتل والدته.
نيرون جلاد زوجاته
لم يكن زواج نيرون من أوكتافيا سعيدا، إذ لم تمنحه وريثا وانفصل بحلول عام 62م، في تلك السنة طلق لوسيوس دوميتيوس أوكتافيا ثم اتهمها بالزنى وقتلها، ربما قرر نيرون قتل أوكتافيا لحماية منصبه الإمبراطوري، إذ يرى الدكتور سوتر أن قدرا كبيرا من شرعية نيرون بوصفه إمبراطورا أتت من زواجه ابنة كلوديوس وليس لكون هذا الأخير تبنى لوسيوس دوميتيوس ، كتب ستون ديوس “بعد عدة محاولات فاشلة للانجاب طلق نيرون أوكتافيا بسبب عقمها” ، لكن الناس رأت أن تطليقه إياها كان قاسيا ووحشيا لذا أقدم على نفيها وفي النهاية حكم عليها بالموت بتهمة الزنا التي كانت تهمة باطلة وغير صحيحة، وبعد أن تمسك الجميع ببراءتها أقدم على رشوة معلمه السابق أنس طوس ليدلي باعتراف كاذب مفاده أنه انتهك عفة أوكتافيا.
زواج لوسيوس دوميتيوس الثاني
تزوج نيرون من بوبايا التي كانت حاملا منه مسبقا في السنة التي قتل فيه زوجته الأولى 62م ، وولدت له ابنة في يناير من عام 63م، لكنها لم تعش إلا ثلاثة أشهر فقط فحزن لوسيوس دوميتيوس لوفاة ابنته كثيرا وعدها من الألهة، توفيت بوبايا عام 65 وكانت حاملا مرة أخرى، يقول كتاب قدماء أن لوسيوس دوميتيوس قتلها بركلة على بطنها، لكن الباحثين فكوا حديث رموز قصيدة باللغة المصرية كتب فيها أن بوبايا تريد أن تبقى مع نيرون في الحياة الأخيرة، حيث قال بول شوبرت الأستاذ في جامعة جنيف والباحث الرئيسي الذي عمل على نص القصيدة في مقابلة مع لايف ساينس أن الشاعركان يحاول أن يخبركم أن بوبايا تحب زوجها، وأن القصة التي تلمح إلى قتله إياها ليست صحيحة، ويكمل قائلا لم تكن زوجته لتحبه لو أنه قتلها بركلة في بطنها.
هل أحرق نيرون روما؟
في عام 64م كانت روما على موعد مع كارثة رهيبة فقد شبت النيران في سيرك ماكسيموس، وانتشرت النيران بسرعة في أرجاء روما لتدمر سبعين بالمئة من المدينة على مدار عدة أيام، بالرغم من أن نيرون قد عاد إلى روما وبدأ على الفور بإجراءات الإغاثة، إلا أن التاريخ يذكر لنا أنه هو السبب في اندلاع النيران رغبة منه في إعادة بناء روما، واستدل على ذلك بأنه بنى قصره المذهب على أنقاض المدينة المحترقة، بل وذهب المؤرخون إلى أبعد من ذلك فاتهموا نيرون بأنه كان يتسلى بمنظر النيران وهي تلتهم الأخضر واليابس وبيده ألة القيثارة يعزف بها الموسيقى على أطلال روما ويغني أشعار هوميروس التي تصف حريق طروادة، لكن هل تلك الرواية صحيحة؟.
الواقع أنه ليس هناك أي دليل يؤكد تورط نيرون في حرق روما سوى الأقاويل التي تداولها الناس على مدار تلك القرون الطويلة، بل هناك قراءات تشير إلى العكس، فمعظم المباني في روما كانت مصنوعة من مواد قابلة للاحتراق وكانت المدينة مكتظة جدا، أضف إلى ذلك أنه عندما اندلع الحريق كان لوسيوس دوميتيوس خارج روما أصلا، وتلك الآلة الموسيقية التي ادعى المؤرخون أنه كان يعزف عليها إبان الحريق لم تكن قد اخترعت في هذا العصر من الأساس، ليس هذا وحسب بل إن المؤرخ الإنجليزي أنطوني باريت يرى أن الحقائق المتعلقة بحريق روما تم تزييفها بشكل متعمد، والحريق لم يكن هائلا كما يصوره المؤرخون وإنما التهم خمسة عشر بالمئة فقط من المدينة، كما أن النيران لم تدمر فقط الأحياء الفقيرة كما يقول المؤرخون بل دمرت منازل الطبقة الأرستقراطية أيضا.
كما أن نيرون فرض ضرائب كبيرة على النخبة لمواجهة تداعيات هذا الحريق، وشرع في إعادة إعمار المدينة هذا ما جعل النخبة تتهمه بإشعال الحريق، وهناك بعض الروايات التي تدعي بأن لوسيوس دوميتيوس قدم المساعدة للضحايا وأنه وفر المأوى للمشردين بالحدائق والمباني العامة فقط لكونه واجه اتهامات تدلي بكونه السبب في حريق روما.
لوسيوس دوميتيوس كاره المسيحين
ألقى نيرون باللوم على المسيحيين بكونهم هم السبب في حريق روما، فبدأت واحدة من أبشع حملات الاضطهاد في التاريخ القديم، إذ تفنن لوسيوس دوميتيوس في تعذيب المسيحيين وقتلهم بأبشع الوسائل، فتارة يتم صلبهم وتارة يلبس لهم جلود الحيوانات ويلقيها إلى الكلاب المسعورة في السيرك لتقتلهم، بل وكان يغمسهم في القطران ويشعل فيهم النار ليستخدموا كمصابيح بشرية ليضيء بهم المدينة أثناء الحفلات التي كان يقيمها.
لكن للأستاذ ديدا موس المختص في مجال العهد الجديد والمسيحية الأولى بجامعة نوتردام رأي آخر، إذ شكك في مقال له بموقع ديلي بيست الأمريكي في تلك الروايات التاريخية، واتفق معه المؤرخ برنت شو لأن معظم الأدلة التي وردت إلينا عن اضطهاد نيرون للمسيحيين كانت كتابات للمؤرخ الروماني سايتس، لكن لا توجد أي إشارات إلى مسيحيين في كتابات جميع المؤرخين الرومان الذين سبقوا، خاصة وأن المسيحيين لم يكونوا يحملون هذا الاسم في عام 64م، بل إن أتباع عيسى الأوائل كانوا يهودا.
وعلى ذلك لا يمكن ل لوسيوس دوميتيوس استهداف جماعة لم تكن موجودة في عصرهم، فبحسب برنت شو فقد أعدم بعض المخربين الذين يثيرون المشاكل، لكن هذا لا يمنع من أن نيرون قد اضطهد أتباع المسيح بسبب ديانتهم وليس لكونهم السبب في حريق روما كما يذكر بعض المؤرخين الرومان، أما عن الحواريين بطرس وبولس فيقول الأستاذ ديدا موس أن أول وثيقة مسيحية أشارت إلى موتهما هي وثيقة كليمنت، وقد ذكرت أنهما أعدم بسبب الغيرة أو بمعنى أخر بسبب نزاعات داخلية وليس بسبب الحريق مع جبروته الذي فاق كل الحدود.
نهاية نيرون
دبر أعداء نيرون مؤامرة للتخلص منه عام 65 للميلاد، لكن هذا الأخير علم بالمؤامرة فتم القبض على المتآمرين وأعدموا، وبعد مرور ثلاث سنوات ومع ازدياد السخط الشعبي على لوسيوس دوميتيوس، أعلن مجلس الشيوخ الروماني أن نيرون عدو للشعب وحكم عليه بالإعدام، فقرر لوسيوس دوميتيوس أن ينهي حياته بنفسه فمات منتحرا في التاسع من يونيو عام 68 للميلاد، لتنتهي بذلك قصة واحد من أسوأ الطغاة الذين عرفهم التاريخ.
لطالما امتلأ العالم بالمجانين الذين ظنوا أنفسهم محور الكون، لكن تلك حالات فردية يمكن التعامل معها وتقييدها، الكارثة أن يعتلي هؤلاء المجانين السلطة، فتكون فترة حكمهم وبالا على الشعوب التي حكموها تماما مثلما حدث مع نيرون الإمبراطور الروماني الذي اضطهد المسيحيين وحرقهم ليضيء بهم المدينة في الليل وكأنهم مصابيح بشرية، فأصبح يضرب به المثل في الشر وسوء استغلال السلطة وسوء الخاتمة.
يعد لوسيوس دوميتيوس واحدا من أكثر الرجال سيئ السمعة في التاريخ، ففي فترة حكمه قتل والدته وزوجته الأولى أوكتافيا، ويزعم أنه قتل زوجته الثانية بوبا سابينا، وإضافة إلى ذلك يدعي كتاب القدماء أن نيرون هو من أشعل حريق روما الكبير عام 64 للميلاد لكي يعيد بناء مركز المدينة.