أنطون تشيخوف | عندما يكون الألم سر النجاح

عندما كان أنطون تشيخوف طفلا الذي سيكون كاتبا معروفا من 1860 إلى 1904 كان يواجه صباح كل يوم شعورا بالرهبة، حيث يتساءل هل سيضرب والده في ذلك اليوم؟ أم أنه سيفلت من الضرب، لقد كان والده بافيل ايغور يضربه بلا سابق إنذار وبلا سبب واضح أحيانا، ويضربه بقسوة مرات متعددة في اليوم الواحد، يضربه بالعصا أو بالصوط أو بظاهر يده، وما كان يزيده إرباكا وتشويقا أن والده لم يكن يضربه بحقد أو غضب ظاهر، وكان يقول ل أنطون بأنه يفعل ذلك بدافع الحب، فإرادة الله أن يضرب الأولاد لغرس التواضع فيهم، وعلى هذا النحو نشأ أنطون تشيخوف. بعد تلقي أنطون الصغير ضرب والده له كان يقبل يد والده ويطلب منه الغفران لكنه على الأقل لم يكن وحيدا في هذا البلاء، فقد كان إخوته الأربعة وأخته يتلقون المعاملة نفسها.

 ولم يكن الضرب الأمر الوحيد الذي يخشاه أنطون فعند الظهيرة كان يسمع خطوات والده القادمة خارج منزلهم الخشبي المتداعي فيبتعد خوفا، ففي غالب الأحيان كان والده يعود إلى المنزل في ذلك الوقت ليطلب من الصغير أنطون أن يحل محله في دكان البقالة الذي يملكه في بلدة المنعزلة في روسيا، حيث كانت تعيش تلك العائلة، وكان البرد القارس في الدكان بردا لا يطاق في معظم أيام السنة.

وبينما كان أنطون يدير شؤون الدكان كان يحاول كتابة واجباته المدرسية إلا أن أصابعه كانت لا تلبث أن تخدر ويتجمد الحبر في الدواة التي يضع فيها قلمه، وفي تلك الدكان التي يرثى لها والتي تفوح منها رائحة اللحم الفاسد كان عليه أن يسمع الدعابات القذرة التي يتبادلها الفلاحون الأوكر|||انيون الذين يعملون هناك، ويشاهد التصرفات البذيئة لأصناف السكارى الذين يطوفون البلدة سعيا وراء كؤوس الخمر، ووسط هذه الأجواء كان على أنطون أن يحرص على كل قرش يصله وإلا فإنه سيتلقى المزيد من الضرب المبرح من والده.

الأم

كانت أمه تحاول التدخل لتحمي أطفالها من الضرب، وكانت ذات روح لطيفة ورقيقة لا نظير لها في عين زوجها، وكانت تقول لزوجها بأن ولدها أنطون صغير جدا على العمل في الدكان، وأنه بحاجة إلى الوقت اللازم ليدرس دروسه وجلوسه في الدكان يتجمد من البرد يخرب صحته، فيرد الأب صائحا بأن أنطون كسول بطبيعته ولن يصبح إنسانا محترما إلا بالعمل الشاق، ولم يكن هناك راحة حتى في يوم الأحد فقد كان الأب يوقظ أطفاله في الساعة الرابعة أو الخامسة صباحا ليتدرب على الغناء للمشاركة في جوقة الكنيسة فقد كان هو مدير الجوقة، فإذا عادوا من الغناء في الكنيسة ضحكا، كان عليهم إعادة تلك الأغاني بطقوس خاصة بهم وحدهم ثم العودة إلى الكنيسة في قداس وقت الظهر. وعندما ينتهي كل ذلك كانوا يبلغون مرحلة من التعب والإجهاد لا يستطيعون معها اللعب.

 وفي الأوقات التي كان يحظى بها أنطون لنفسه كان يتجول في أنحاء البلدة، وكانت بلدته مكانا كئيبا على الناشئة ذات بنية تحتية ضعيفة جدا، وكان السجناء يكلفون بمهمة البحث عن الكلاب الضالة في الطرقات وضربها حتى الموت، وكانت المقابر المحيطة بالبلدة هي المكان الوحيد الهادئ والأمن في البلدة، وكان أنطون يكثر التردد عليها حيث يتساءل في تجواله عن نفسه وعن العالم، فهل كان حقا بلا قيمة لدرجة أنه يستحق تلقي الضرب يوميا من والده؟ لعل الأمر كذلك، لكن والده كان مثالا حيا للتناقض، فقد كان كسولا سكيرا وغير أمين مطلقا مع زبائنه، ومع ذلك كان يمتلئ بالحماسة الدينية.

كان أهالي المدينة على القدر نفسه من السخف والنفاق، فكان أنطون يراقبهم في المقبرة وهم يحاولون التظاهر بالتقوى والورع في موكب الجنازة، ثم يهرعون إلى التهام بعض الحلويات اللذيذة التي يتناولونها لاحقا في منزل أرملة الميت، وكأن ذلك هو ما جعلهم يحضرون الجنازة، وكان ملاذه الوحيد في مواجهة الأسى والسأم هو شعوره المستمر بأن عليه أن يهزأ بكل ذلك.

أنطون تشيخوف المهرج

أصبح أنطون تشيخوف مهرج العائلة يقلد شخصيات الناس في البلدة ويخترع قصصا عن حياتهم الخاصة، وكان أحيانا في دعواته يتحول إلى العدوانية، فكان يصنع مقالب فظة بأطفال الجيران، وأخذ أنطون يتحول إلى صبي شقي وكسول للغاية.

عائلة تشيخوف المتشردة

 وفي سنة 1875 تغير كل شيء في أسرة تشيخوف حيث قرر أخوه ألكسندر وأخوه الأخر نيكولاي الانتقال معا إلى مدينة موسكو، حيث أراد ألكسندر الحصول على شهادة جامعية، وأراد نيكولاي أن يصبح فنانا رساما، أثار هذا التحدي حنق الأب إلا أنه لم يكن بوسعه منعهما، وفي الوقت نفسه أفلس الأب فتسلل خلسة من البلدة في إحدى الليالي دون أن يخبر زوجته خوفا من الدائنين، وفر إلى موسكو عازما على العيش مع ولديه هناك، وأجبرت الأم على بيع ممتلكات العائلة للوفاء بديونها، وقد عرض مستأجر يعيش معهم مساعدة الأم في الدعاوى التي تواجهها مع الدائنين، لكنها صعقت إذ استخدم علاقاته مع سلك القضاء ليطلب المنزل من عائلة تشيخوف، وأجبرت الأم على مغادرة منزلها مع أطفالها إلى موسكو، وهي في أسوأ حال من الفقر المدقع.

أنطون الجائع

 لكن أنطون بقي في البلدة لينهي دراسته فيها وينال شهادة المدرسة الثانوية، وكلفته أمه ببيع ما تبقى من ممتلكات العائلة وإرسال النقود إلى موسكو بأسرع ما يمكنه فأعطى المستأجر السابق الذي أصبح الان صاحب المنزل أنطون زاوية في إحدى غرف المنزل ليعيش فيها، وهكذا ترك أنطون يعتمد على نفسه في تلك البلدة وهو في سن السادسة عشرة، وبدا الأمر صعبا عليه للغاية فليس هناك على الإطلاق من يلتفت إليه طلبا للمساعدة، وألقى أنطون اللائمة على والده في هذا المصير البائس الذي وصل إليه فأدرك أنه لا وقت عنده لهذه العواطف فقد كان بلا مال ولا مورد يعتاش منه، ومع ذلك فإن عليه أن يتدبر أمره بطريقة أو بأخرى، فعمل معلما خصوصيا عند عدد من العائلات ، فإذا خرجت تلك العائلات في إجازة لها فإنه غالبا يبقى جائعا أياما حتى يعودوا.

كانت سترته الوحيدة التي يلبسها سترة رثة بالية، ولم يكن لديه حذاء مطاطي مرموق يقي به قدميه المطر الشديد، فكان يشعر بالخجل إذا دخل منازل الناس وهو يرتعش من البرد وقدماه مبللة تماما، لكنه على الأقل بات يستطيع الأن أن يعيل نفسه وقرر أن يصبح طبيبا، فقد كانت لديه ميول علمية ورأى أن الأطباء يكسبون قدرا جيدا من المال من معيشتهم، لكن كان عليه أن يدرس بجد أكبر للدخول في كلية الطب، ومع تردده على مكتبة البلدة وهو المكان الوحيد الذي كان يستطيع أن يدرس فيه بأمان وهدوء، بدأ أيضا يستعرض الأقسام الأدبية والفلسفية في المكتبة، وبوجود الكتب من حوله لم يعد يشعر كثيرا بأنه حبيس هذه البلدة، وفي الليل كان يعود إلى زاويته ليكتب القصص وينام، ولم يكن عنده شيء من الخصوصية إلا أنه كان يحافظ على زاويته نظيفة ومرتبة.

أنطون تشيخوف يسعى للحرية

بدأ عقل أنطون أخيرا يستقر فأمسك تأتيه أفكار وعواطف جديدة، ولم يعد العمل شيئا يرهبه بل أحب انشغال ذهنه في دراسته وجعل شغله تعليم الدروس الخصوصية يشعره بالفخر والاحترام لنفسه، فقد بات بمقدوره أن يعتني بنفسه، وكانت الرسائل تصله من عائلته، فأخوه ألكسندر طار صوابه تذمرا من والده الذي جعل حياتهم جميعا تعيسة مرة أخرى، وميخائيل أصغر الأولاد يشعر بأنه مكتئب ولا قيمة له، وبعد أن أصبح أنطون وحيدا ويعتني بنفسه بات يتوق إلى أن يصبح حرا بالمعنى الحقيقي للكلمة، فأراد أن يتحرر من الماضي ويتحرر من والده، ولا ننسى أن أجداد أنطون كانوا أقانا أي عبيدا إلى أن اشترى جده الحرية.

 عمل أنطون تشيخوف على التسامح مع ماضيه المؤلم وتقبل والديه اللذان كان يراهما أنهم سيئين ( ضعف والدته) (وقساوة والده)، بدا وكأن حملا ثقيلا قد أزيح عن كاهله وأقسم لنفسه ألا ينحني ويعتذر للناس بعد الآن ولا يعود إلى التشكي ولوم الأخرين، فقد كان الحل لكل ما مر به هو العمل والحب، وكان عليه أن ينشر هذه الرسالة في عائلته وينقذهم مما هم فيه، وكان عليه أن يشاطرها مع سائر العالمين بما يكتبه من قصص ومسرحيات.

أنطون في موسكو

 وانتقل أنطون أخيرا إلى موسكو سنة 1879 ليكون مع عائلته ويلتحق بكلية الطب، لكن ما رآه هناك أصابه باليأس والقنوط فعائلة تشيخوف وبعض المستأجرين المقيمين معها كانوا جميعا محشورين في غرفة واحدة في قبو مبنى سكني وسط حي البغاء، وكانت التهوية في الغرفة ضعيفة ويكاد لا يدخلها النور، والأسوأ من ذلك كله هو معنويات ساكني الغرفة فأمه سحقتها مخاوفها المستمرة من قلة المال وسكنها في جوف الأرض، أما أبوه فازداد تعاطيه المسكرات، وكان مستمرا في ضرب أولاده، ولم يعد إخوته الصغار في المدرسة فليس بوسع العائلة تحمل تكاليفها، فكانوا يشعرون بأنهم عديمو النفع تماما.

وكان ميخائيل على وجه الخصوص أكثر اكتئابا من أي وقت مضى، وحصل ألكسندر على عمل كاتبا في إحدى المجلات إلا أنه شعر بكونه يستحق ما هو أفضل من ذلك وبدأ يكثر من الخمو وكان يلوم والده على مشكلاته لأنه تبعه إلى موسكو حيث كان يلاحقه في كل خطوة يخطوها، أما نيقولاي الفنان فكان ينام حتى وقت متأخر من النهار ويعمل لماما ويمضي معظم وقته في حانة قريبة، لقد كانت العائلة بأسرها تنحدر إلى الهاوية بسرعة خطيرة، أما جيرانهم الذين يعيشون في ذلك المبنى وفي تلك الغرفة يزيدون الأمور سوءا على سوء، لكن أنطون قرر أن عليه أن يفعل نقيض ذلك فانتقل للعيش في تلك الغرفة المزدحمة ليكون المحفز على التغيير.

أنطون

فبالنسبة لأمه وأخته المغلوبة على أمرهما قرر أن يقوم بالأعمال المنزلية عوضا عنهم وعندما رآه إخوته يقوم بأعمال التنظيف وكي الثياب وافقوا على مشاركته في القيام بهذه الواجبات، وكان يقتصد في النفقات ويدخر المال من منحته الدراسية في كلية الطب، وحصل على مال أيضا من والده ومن ألكسندر، واستطاع بما جمع من مال أن يعيد إخوته الصغار ميخائيل وإيفان وماريا إلى المدرسة، ونجح في العثور على عمل جيد لوالده، واستطاع أن ينتقل بالعائلة كلها إلى شقة كبيرة ذات إطلالة جميلة، وجعل إخوته يقرأون كتبا اختارها لهم وكانوا يناقشون حتى ساعة متأخرة من الليل أخر الاكتشافات العلمية والأسئلة الفلسفية، وتعززت قوة الرابطة بينهم شيئا فشيئا واختفت إلى حد كبير مواقف التشكي ورثاء النفس التي كان رآها في البداية.

وكان أعظم مشاريعه مع أنطون هو إصلاح أمر ألكسندر الذي رأى فيه أكثر أفراد العائلة موهبة إلا أنه أكثرهم اضطرابا، فعندما يعود ألكسندر إلى المنزل وهو سكران يترنح من الثمالة يشرع في سب أمه وأخته ويهدد بسحق وجه أنطون وأصبحت العائلة مستسلمة لهذه الشتائم، إلا أن أنطون لم يتسامح معها فقال ل ألكسندر في أحد الأيام بعد ليلة من السباب والشتائم بأنه إذا عاد وصاح في وجه أي فرد من العائلة سيمنعه من دخول المنزل ويتبرأ منه الجميع، وأخبره بأن عليه أن يعامل أمه وأخته باحترام، واعتذر ألكسندر عما بدر منه وتحسن سلوكه لكن المعارك معه استمرت، فقد كانت نزعة تدمير النفس قد ترسخت عميقا في عائلة تشيخوف، فأدت ب نيكولاي إلى الوفاة مبكرا بسبب انخراطه في معاقرة المسكرات، ولولا الانتباه المستمر الذي أولاه أنطون ب ألكسندر لا لقي ألكسندر المصير نفسه بكل بساطة، فمنعه أنطون من شرب الخمر بالتدريج وساعده في عمله الصحفي.

الشهرة والمرض

 في أحد أيام سنة 1884م أخذ أنطون يبصق دما، وكان من الواضح ظهور العوارض المبكرة لمرض السل عليه، ورفض أن يتفحصه طبيب زميل له فقد فضل ألا يعلم بحقيقة مرضه، وأن يستمر في الكتابة وممارسة مهنة الطب دون أن يقلق بشأن المستقبل، لكن مع ازدياد شهرته التي تحققت في مسرحياته وقصصه القصيرة، بدأ يواجه نوعا جديدا من الانزعاج، إنه الحسد والانتقادات التافهة من زملائه من الكتاب، فقد قاموا بتشكيل زمر سياسية مختلفة دأب كل منها على مهاجمة الأخرى ومهاجمة أنطون نفسه الذي رفض أن يضع نفسه في صف أي قضية ثورية، وكل ذلك جعل أنطون يبتعد عن عالم الأدب أكثر فأكثر، والمزاج العالي الذي صنعه لنفسه بعناية شديدة في بلدته القديمة كان يتبدد وأصابه الاكتئاب وأخذ يفكر في ترك الكتابة تماما.

الكتابة من عمق الحدث

 وقرب نهاية سنة 1889م فكر في طريقة يحرر بها نفسه من اكتئابه الذي أخذ يطغى عليه، فقرر أن يكتب عن اللصوص والمحتالين ويدخل إلى عقولهم وكان بسطاء المجتمع الروسي يقبعون في السجون يعيشون في ظروف شنيعة، وكان أسوأها سمعة في روسيا سجن يقع في جزيرة ساخالين قرب شمالي اليابان، وكان في السجن خمسة معسكرات عقابية يعتقل فيها مئات الألوف من السجناء وعائلاتهم لقد كان ذلك السجن أشبه بدولة خفية، فلم يكن أحد في روسيا يعلم أي شيء عما يحدث فعلا على أرض تلك الجزيرة، وقد يكون في ذلك حل لغز تعاسته الحالية، فبإمكانه القيام برحلة شاقة عبر سيبيريا للوصول إلى تلك الجزيرة، ويجري مقابلات هناك مع عتاة المجرمين ليكتب كتابا يفصل فيه الظروف القائمة في ذلك المعتقل بعيدا عن عالم الأدب الزائف.

الرحلة

بعد رحلة دامت ثلاثة أشهر وصل أخيرا إلى جزيرة سخالين في شهر تموز يوليو سنة 1890، وسارع إلى غمس نفسه في هذا العالم الجديد فعمل على إجراء مقابلات مع كل سجين يمكنه إجراء مقابلة معه، بمن فيهم أعظم المجرمين جناية وتقص كل جانب من جوانب حياتهم، وشهد أبشع عمليات التعذيب للسجناء، وتبع أخرين يراهم يعملون في مناجم الجزيرة وهم مقيدون بالعربات اليدوية، وكان على السجناء الذين ينهون تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم أن يبقوا غالبا في الجزيرة في معسكرات العمل، لذلك كانت سخالين تكتظ بزوجات اللاتي ينتظرن أزواجهن في تلك المعسكرات، وكانت أولئك النساء وبناتهن يلجأن إلى الدعارة لكسب قوتهم، لقد كان كل شيء مصمما للحط من معنويات الناس واستنزاف كل قطرة من كرامتهم، وذكره ذلك بما سبق أن جرى في عائلته، لكن الأمر هنا كان على مستوى أكبر بكثير.

 قد أثر فيه ما رآه أبلغ تأثير وطاقة إلى العودة إلى موسكو ليكتب عما شاهده، وكان إحساسه بالتوازن قد عاد إليه وحرر نفسه أخيرا من الهموم والأفكار التافهة التي كانت تثقل كاهله، فكتب كتابا بعنوان جزيرة سخالين لفت انتباه العامة وأدى إلى إصلاحات جذرية في ظروف المعيشة على تلك الجزيرة.

نهاية رحلة أنطون تشيخوف

 تدهورت صحة أنطون في سنة 1897م وبدأ يسعل دما دائما تقريبا، ولم يعد بإمكانه إخفاء مرضه بالسل عن العالم بأسره، ونصحه الطبيب الذي كان يعالجه بالاستقالة من عمله في الطب ومغادرة موسكو إلى الأبد، فقد كان بحاجة إلى الراحة، ولعله إذا عاش في مصحة أن يمد في عمره بضع سنوات، إلا أن أنطون لم يأخذ بنصيحة الطبيب وعاش حياته وكأن شيئا لم يتغير فيها، وأخذت جماعة تؤمن به تعلي مقامه وتكبر غاية الإكبار تتشكل من حوله، وكانت تتكون من الفنانين الشباب والمعجبين الهائمين في مسرحياته، ورأى جميعهم فيه أشهر كتاب روسيا، وكانوا يأتون لزيارته بأعداد كبيرة، وعلى الرغم من أن اعتداله كان واضحا إلا أنه كان يشع بالسكينة التي تذهل كل من زاره، فمن أين أتته هذه السكينة؟ وهل ولد وهي تسكن فؤاده؟ وكان يبدو مستغرقا تماما في أخبارهم ومشاكلهم، ولم يسمعه أحد يتحدث عن مرضه مطلقا.

 وفي شتاء سنة 1904 ومع ازدياد سوء حالته الصحية أراد فجأة أن يقوم بجولة في الريف فقد كان سماع صوت أجراس الزلاجة واستنشاق الهواء البارد من أعظم متعه في الحياة، وأراد أن يشعر بهذه المتعة مرة أخرى قبل أن يموت، وكانت تلك المتعة ترفع معنوياته عاليا إلى درجة أنه لم يأبه بأي عواقب تنجم عنها، وكانت عقبات ذلك أليمة فقد توفي بعد ذلك ببضعة أشهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى