ليو تولستوي من قصر النبلاء إلى خيمة الفلاح | أسرار حياة العبقري المضطرب

يعد من أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، ويصنف ضمن أفضل الكتاب في العالم مفكر أخلاقي وفيلسوف ومصلح اجتماعي وداعية سلام، تمرد على أصوله الأرستقراطية واختار بساطة العيش، كان يؤمن بأن الرواية ليست مصدرا للترفيه ولكنها الوسيلة الأسمى للإصلاح والتربية، ليو تولستوي عملاق الأدب الروسي قدم روائع الأدب العالمي وفي مقدمتها روايته الحرب والسلام وأن كارنينا .

 ولد الكونت نيكولاي فيتش تولستوي في التاسع من سبتمبر عام 1828 بمقاطعة تولا الروسية جنوبي موسكو في الملكية العائلية الضخمة، حيث ولد لعائلة نبيلة ثرية، فوالداه هما الكونت نيكولاي الدش تولستوي و الكونتيسة ماريا فولكان كايا، وكان الأصغر بين أربعة أطفال، توفيت والدته قبل أن يبلغ العامين من العمر عام 1830 ووالده عام 1837، وتوفيت جدته بعد أحد عشر شهرا من وفاة والده ثم وصيته التالية عمته ألكسندرا في عام 1841 ونشأ ليو وإخوته بين الأقارب على يد ابنة عم له، وخلفها عدة عمات رغم معاناته من وجود الموت المستمر في سنواته المبكرة، تذكر تولستوي طفولته بعبارات شاعرية وكان أول عمل منشور له الجزء الأول من سيرته الذاتية بعنوان الطفولة عام 1852، والجزء الثاني الصبا في عام 1854، وكان سردا خياليا وحنينا إلى سنواته الأولى.

 تميز ليو كونه شابا واثقا من نفسه بشكل استثنائي من نواح كثيرة، ووفقا لموسوعة بريطانيا تلقى الأرستقراطي تعليمه المبكر من قبل مدرسين فرنسيين وألمان، ثم التحق بجامعة قازان لدراسة اللغات الشرقية في عام 1843 لكنه فشل في التفوق كطالب، وسرعان ما انتقل إلى دراسة القانون حيث كان مهتما بالأدب والأخلاق، وخاصة كتابات الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، ليترك الجامعة عام 1847 من دون الحصول على شهادة جامعية، عاد تولستوي إلى منزل والديه حيث حاول أن يصبح مزارعا، لكنه فشل في ذلك أيضا، وكان السبب حياته الصاخبة التي أمضاها بحضور الحفلات ولعب الورق.

مشاركة ليو تولستوي في الحرب ضد العثمانيين

 في أحد الأيام عاد شقيقه نيكولاي إلى المنزل في إجازة، حيث أقنع ليو بالانضمام معه إلى الجيش، فقد كانت روسيا حينها في حرب في القوقاز وشارك في حرب القرم بأوكرانيا ضد العثمانيين حتى عام 1855، وشهد فظائع الحرب بما في ذلك الحصار الدموي “سيفاستوبول” واحدة من أكثر المعارك دموية في القرن التاسع عشر، وعنها كتب تولستوي سلسلة من ثلاثة أجزاء نشرت في عامي 1855 و 1856، وأشاد حينها القيصر بعمله الذي يتناول شجاعة الجنود البسطاء، وأظهرت تلك الكتابات اهتمام تولستوي الشديد بأخلاقيات مراقبة معاناة الأخرين.

 بعد حرب القرم استقال تولستوي من الجيش وتم الترحيب به في العالم الأدبي بسان بطرسبورغ، لكنه رفض الانضمام إلى أي مدرسة فكرية، وظل طوال حياته معارضا للاتجاهات الفكرية السائدة، في عام 1857 سافر ليو إلى باريس وعاد إلى روسيا بعد أن راهن بأمواله ونشر الجزء الثالث من سيرته الذاتية الشباب في العام نفسه، قرر تولستوي فيما بعد أن مهمته الحقيقية هي نشر التعليم، فقام بتأسيس مدرسة لأطفال الفلاحين والفقراء في أرضه، بعد جولة له في أوروبا الغربية بين فرنسا وسويسرا وألمانيا لدراسة أصول التربية السليمة وأساليب التدريس، وبحثا عن وسائل لتطوير المجتمع الروسي، وهكذا كرس ليو نفسه في ستينات القرن التاسع عشر لتعليم الجماهير بفكره الإصلاحي، فلم يكتف بالتنظير وقام بنشر اثني عشر عددا من مجلة “هي يوليانا” في عامي 1862 و 1863، كما نشر عددا من الأعمال التعليمية كان لها تأثير قوي على التعليم في روسيا.

زواج ليو تولستوي

 في عام 1862 تزوج تولستوي من صوفيا أندريه بيرس وهي ابنة طبيب بارز في موسكو، وكانت تبلغ من العمر ثمانية عشر عاما فقط، وأنجبا ثلاثة عشر طفلا نجا منهم تسعة أطفال، كانت صوفيا مثقفة تخرجت من جامعة مرموقة وتجيد عدة لغات، فساعدت تولستوي في نسخ مؤلفاته التي كان يمليها عليها، واعتمد عليها بشكل خاص في كتاباته، حتى أنها خطت بيدها رواية الحرب والسلام سبع مرات.

صعود نجم ليو

 بدأ تولستوي العمل في على أعظم تحفة روائية له الحرب والسلام والتي استندت تاريخيا إلى الحروب النابليونية بشخصيات خيالية نابضة بالحياة ونشرت عام 1869عندما كان بعمر الحادية وأربعين عاما، وتحكي الرواية قصة خمس أسر روسية مرورا بتجاربهم الإنسانية تحدث تولستوي فيها عن مظاهر الترف وتفاصيل الفقر وخبايا البشر في بانوراما مذهلة، وهي أيضا رواية تاريخية تصف الأحداث السياسية والعسكرية في أوروبا أنذاك، وغزو نابليون لروسيا عام 1812، وفيها أعلن تولستوي رفضه لنظرية تخليد التاريخ للرجل العظيم وأن البصمات المؤثرة ليست للأبطال فقط، بل ما يصنع التاريخ أفعالا غير ملحوظة ولا يمكن توثيقها لأناس عاديين.

 أما رواية تولستوي الشهيرة أن كارنينا وهي قصة حب مأساوية فكانت غوص في أعماق النفس البشرية والقضايا الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية لروسيا القيصرية والطبقة الأرستقراطية، وجعلت أرباح تلك الرواية تدريجيا من تولستوي مؤلفا ثريا للغاية، رغم نجاح أن كارنينا عانى ليو بعدها من أزمة روحية وأصيب بالاكتئاب مكافحا للكشف عن معنى الحياة.

تولستوي بين التدين والالحاد

 ذهب تولستوي إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لكنه لم يجد الإجابات التي سعى إليها، وبدلا من الدين طور معتقداته الخاصة والمثيرة للجدل، وأسس نفسه كزعيم أخلاقي وروحي، ونتيجة لذلك أطاحت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ب تولستوي بعد تصريحه علنا بأن علاقته مع الله لا تحتاج لوسطاء، حتى أنه تمت مراقبته من قبل الشرطة السرية رغم أصله الأرستقراطي، في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر كانت كتابات تولستوي غزيرة الإنتاج.

 وفي عام 1898 ألف تولستوي كتاب ما هو الفن؟ وفيه وضع نظريته الفن للحياة، ثم بدأ بكتابة أعمال تناول فيها حياة الفقراء البسطاء بدلا من الأمراء والنبلاء، فكانت روايته موت إيفان المدهش مثالا رائعا للقصة القصيرة، وكانت واحدة من بين أكثر أعماله نجاحا، أما روايته الحاج مراد التي اكتشفت ونشرت بعد وفاته فقد أثبت تولستوي فيها كونه محللا نفسيا قديرا في سنواته الأخيرة، تخيل ليو نفسه قائدا أخلاقيا ودينيا متخذا اللاعنف كوسيلة لمقاومة الشرور، فقرر التخلي عن أمواله و ألقابه الأرستقراطية، لكن زوجته لم توافق على معتقداته الجديدة وكانت مستاءة من تلاميذه وإنفاقه على المحتاجين، ما تسبب في مشاكل بينهما وفي النهاية هرب من استياء زوجته.

فكر تولستوي

يقول ليو تولستوي كل أعمالي تدور حول بطل واحد جهدت في تصويره بكل ما فيه من جمال وروعة وهو الحق، فإن الحق وإظهار الحق بكل تجلياته هو ما يسعى خلفه ليو تولستوي في أعماله، ولذلك يعتبر من كبار كتاب الواقعية السواء في عصره أو فيما بعد عصره، فإن تولستوي صور لنا في مؤلفاته ورواياته الحياة بكليتها، ولم يتردد لحظة واحدة مثلا في تصوير المجتمع الروسي بكل تفاصيله وألوانه واتجاهاته وبكل تناقضاته، وبكل ما يحوي هذا المجتمع في داخله من عظمة وحقارة مثلا وبطولات وجرائم وخطايا وأثار وإرهاصات أخلاقية سامية، وبكل ما يموج في داخل هذا المجتمع من تناقضات من مثل القسوة والرحمة والظلم والمثابرة والعذابات والمعاصي والمسرات إلى أخره.

 أيضا تولستوي لم يكن صدى صوت طبقة واحدة من المجتمع الروسي بل كان صوت شعبه بكل فئاته، لا بل نستطيع أن نقول أن تولستوي كان بالفعل صوت عصره بامتياز وكان من مثل مرآة عكست المجتمع بأكمله، فلقد استطاع ليو أن يخرج من شرنقة التقليد طبعا بوصفه وريث لسلالة أرستقراطية إقطاعية، وهذا حدث بعد أن تحرر من أفكار وعادات وتقاليد تلك الطبقة التي كان ينتمي إليها، طبعا هذا التحرر لنقل فتح بصيرة تولستوي، فكان أن صور لنا بطريقة مذهلة ذلك الواقع البشع لهذه الطبقات المستغلة إبان العهد القيصري، طبعا هذا الأمر لنقل ساهم بشكل أو بأخر في خلخلة أسس هذا النظام الاجتماعي الظالم الذي كان يمنح لفئة قليلة أو لقلة قليلة كل الامتيازات وكل السلطات، فيما القسم الأكبر من الشعب الروسي كان ينوء تحت نير الامتهان والاستعباد والفقر والجوع أيضا.

الوفاة

 في عام 1910 كان تولستوي قد تجاوز الثمانين من عمره، هجر زوجته وعائلته وهرب في ليلة باردة من شهر أكتوبر، تدهورت صحته وانهار في أحد الأيام بمحطة القطار في بوبو، فتم نقله إلى منزل رئيس المحطة، لكنه توفي بسبب مرض الالتهاب الرئوي في العشرين من نوفمبر عن عمر يناهز اثنين وثمانين عاما، كانت جنازة تولستوي مناسبة عامة كبرى حضرها الألاف من جميع أنحاء روسيا والعالم، أعيد رفاته إلى منزله ودفن في الغابة بحوزة عائلته.

 كان تولستوي مبدعا في حربه وسلامه شبابه الصاخب وشيخوخته الحكيمة، أرستقراطية بيته وإنسانيته، كما أجمع الروائيون على أنه أعظم روائي عاش على مر العصور، بينما اتفق نقاد المدارس المتنوعة على عبقرية كتاباته وشخصيته المؤثرة أما بالنسبة لجميع من قرأه فلم يكن تولستوي واحدا من أعظم الكتاب وحسب بل كان نبيلا متواضعا ورمزا للبحث عن معنى الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى